نتساءل أحياناً لماذا يتغلب الأشرار على الأخيار؟! لماذا لا تكون الشوكة للحق وأتباعه في الوقت الذي يعربد فيه الباطل بأنذاله؟! لماذا لا تُنصر دعوة المقهورين؟! لماذا لا تُكف أيادِ الباطشين؟! كيف نعبر؟! ما النجاة؟! أين الخلاص؟! ومتى؟! هذه الأسئلة وما يشابهها تؤرق أيامنا وتحير ألبابنا وتعصف بأذهاننا!
وما يجعل هذه التساؤلات ترتقي إلى مستوى الإشكالات، كونُ الأمة الإسلامية هي أمةُ القرآن، والقرآن تضمن جملةً من المبادئ والأحكامِ التي تُغطِّي جوانبَ الحياة الرئيسيةِ وتستوعب قضايا الإنسان الأساسية، وتطرح أمام الإنسانيةِ مناهج التدبر والتأمل والعمل والتفعيل. فكيف بأمة لها كتابٌ بهذا الحجم من الأهمية والقدر أن تكون على هذا الوضعِ من سوء الحال والمآل، ما لم يكن ثمة خللٌ واضطرابٌ قد أصاب علاقتها بكتاب ربها وسنة نبيها فهماً وتنزيلاً؟
فإلى أي حد يمكن للوعي بالفقه السنني وتعقلِ العلاقة الترابطية بين السنن الشرعية والسنن الكونية أن يعيد للأمة الإسلاميةِ دورَها الريادي ويدفعَ بها نحو استئناف الفعل الحضاري؟
للإجابة عن هذا التساؤل الرئيس وما يتناسل عنه من أسئلة فرعية، ولتنوير القراء والباحثين والمتابعين حول هذا الموضوع وبيان مداركه وآفاقه، استضاف موقع منار الإسلام من خلال برنامجه الشهري “ضيف المنار” والذي يبث مباشرة عبر صفحة الموقع بالفايسبوك، كل من الدكتورين خميس رمضان من مصر الشقيقة، والدكتور رشيد كهوس من المغرب الحبيب، وذلك لما قدماه من جهد معتبر وواعد، بحثا وتنقيبا وجمعا وتنظيرا، وفيما يلي نص الحوار مع الدكتور خميس رمضان، وسنعود لاحقا لنشر نص الحوار مع الدكتور رشيد كهوس.
الدكتور خميس رمضان من مواليد سنة 1971م في بني سويف- صعيد مصر، أستاذ مشارك في التفسير وعلوم القرآن في كلية الشريعة بجامعة قطر، من أهل الله وخاصته فهو الحافظ للقرآن الكريم والمجاز بالقراءات السبع المتواترة، المجاز في الكتب الستة للسنة النبوية المطهرة، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الحائز على درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن بتقدير مع مرتبة الشرف الأولى، والذي عمل وحاضر في عدد من الجامعات في مصر والسعودية وقطر ولبنان وتركيا، وصاحب الاهتمام البحثي والدعوي بالسنن الربانية؛ تأصيلاً وتطبيقًا.. صدر له عدد من الدراسات في التمكين وفي التفسير الموضوعي وقواعد فهم القرآن نذكر منها: “موازنة بين منهجَيْ مدرسة المنار ومدرسة الأُمناء في تفسير وعلوم القرآن”، “مفهوم السنن الربانية”، “فهم القرآن بين القواعد الضابطة والمزالق المهلكة”، “الحرية وأثرها في الشهود الحضاري للأمة المسلمة في المنظور القرآني”، “محاور المشروع الفكري لدى الشيخ محمد الغزالي” ولديه مشروع علمي “نحو تفسير سنني للقرآن الكريم” صدر منه ثلاثون دراسة، فأهلا وسهلا ومرحبا بالدكتور رمضان خميس زكي عبد التواب.
نظرا للظرفية التي تمر بها أمتنا الإسلامية أولا، ولأهمية وراهنية الموضوع المختار السنن الإلهية علم قرآني وفقه حضاري، واغتناما للوقت وحتى نستفيد من ضيفين الكريمين سندلف إلى صلب الموضوع مباشرة، وسيكون الوقوف على البعد الإنساني لكل ضيف متضمنا لا مستقلا، وسنستعيض عن فقرة الشهادات بملتمس من كل ضيف أن يشهد للآخر، فهل من تعقيب أولي للدكتور خميس، وماذا يمكن أن يقول لنا عن الدكتور رشيد كهوس؟
أهلا وسهلا ومرحبا بكم جميعا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم حمدا لله وحده وصلاة وسلاما على من لا نبي بعده، محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أما بعد، فشكر الله لكم هذه الدعوة الكريمة والاستضافة الكريمة على مائدة قرآنية كريمة ونبوية كريمة، وفي هذا الظرف الذي تعيشه أمتنا الإسلامية والعربية وعلى وجه الخصوص الأقصى والقدس وما حولهما.
والحقيقة حديثي عن فضيلة الدكتور رشيد حديث مجروح وشهادة مجروحة، فهو باحث شاب مجتهد خدوم، عالم باحث حصيف، يسبق بعلمه وفضله وعطائه سنه، وكنت أتواصل مع أخي الدكتور رشيد قبل أن أرى صورته وأن أتعرف عليه، فكنت أرسم صورة شيخ كبير، فلما رأيته حمدت الله سبحانه وتعالى على أن جعل في أمتنا هذه الرموز وهذه الأعلام.
الدكتور رشيد لا يحتاج إلى شهادة من مثلي، الحقيقة، تميزه العلمي وتقدمه وأثره وضربه في علم السنن بصفة خاصة ضرب واسع الذيول طويل الأكمام كما يقولون. وعندما أكلف طلابي بالبحث في الدراسات السننية تكون ثلاثة أو أربعة من المراجع التي يحصلون عليها من إنتاج أخي الدكتور رشيد. فأنا أحمد الله عز وجل على أن جعل في أمتنا مثل الدكتور رشيد، وأدعو له بالبركة في الوقت والعلم والقبول والإخلاص، وأن يجعله الله عزو جل ربانيا وعالما مفيدا ينتج ويثمر ويطيل عمره ويحسن عمله ويكثر إنتاجه حتى ننتفع منه. وأنا شخصيا من الذين يقرؤون له وينتفعون به ويتعلمون من كتاباته ومن درسه، والله عز وجل يعيننا ويعينه.
هذا سؤال مشترك يستوجب الإجمال، فالتفاصيل لنا معها عودة، هل لكما أن تبينوا لنا كيف تشكلا لديكما الاهتمام بهذا الموضوع؟ وعن الأشخاص الذين أثروا وأثروا مساركما العلمي ومسيرتكما الإيمانية سواء أكانوا ماديين أو معنويين، قدامى أو معاصرين؟
بسم الله الرحمن الرحيم، لعل ما ذكره فضيلة الدكتور رشيد هو شهادة المحب، وأنا أقول كلامي عن الدكتور رشيد كلام حقائق، فها هو تعرف على السنن في مرحلة البكالوريوس ومثلي تعرف على السنن في مرحلة الماجستير، وهذا هو السبق الطبيعي الذي يؤكد ما قلته، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم عليه هذه النعمة وأن يكثر منها. الحقيقة، تعرفت على موضوع السنن في مرحلة الماجستير، رسالتي في الماجستير كانت عن الشيخ محمد الغزالي وجهوده في التفسير وعلوم القرآن. ووجدت أن الشيخ محمد الغزالي يكثر من الحديث عن السنن ويربط بينها وبين واقع الأمة المعيش والتردي الذي تحياه الأمة على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعات، وعلى مستوى الشعوب، وعلى مستويات ومحاور متعددة. فلفت نظري هذا الأمر، ومن طبيعتي أنه إذا لفت نظري أمر في دراسة أو بحث أدونه ثم أتابعه فيما بعد حتى ينضج وينمو. وزاد الأمر وضوحا عندما سجلت رسالة الدكتوراه في مدرسة المنار ومدرسة الأمناء.
وكما تفضل أخي الدكتور رشيد، مدرسة المنار من أعلامها الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضى. الشيخ رشيد رضى رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، أقول لا تكاد تجد صفحة من صفحات تفسير المنار إلا وفيها حديث قليل أو كثير عن السنن وأقول إنها موسوعة، هذا التفسير موسوعة سننية ومازالت بكرا لم تخدم بالصورة التي تستحقها وكما ينبغي أن يكتب فيه، حتى أنه في الفهرس الموضوعي لتفسير المنار تجد صفحات متعددة تتناول قضية السنن بصورة كبيرة. وكان أول دراسة كتبتها عن السنن: “سنة الله في التمكين”، معظم الدراسات والبحوث التي أكتبها هي عبارة عن أفكار نحتاجها في حياتنا، لذلك أخدمها وأوصلها من الناحية العلمية. فلما كتبت “سنة الله في التمكين”، كتبت الحديث عن السنن في أربعين صفحة تقريبا، و من عادتي أنني إذا كتبت شيئا أعطيه لبعض الزملاء و الفضلاء و الشيوخ لينظروا فيه قبل أن أطرحه للطباعة أو قبل أن أدفعه للتحكيم، فدفعته إلى صديق عزيز و زميل كريم و هو الأستاذ الدكتور أحمد عبد الحليم زميلي في الأزهر في القاهرة، والدكتور رمضان عبد الباسط، والدكتور حبيب الله، و نحن كنا زمانا في القاهرة نسكن بجوار بعضنا و كل واحد عنده سيارة بسيطة لكننا نؤثر أن نذهب سويا و نعود سويا في سيارة واحدة فنتدارس و نتشارك في الحوار، فقالوا لي ثلاثتهم أن البحث يجب أن يكون أقل من هذ، لماذا لا تجعل الحديث عن السنن بحثا مستقلا و الحديث عن التمكين بحثا مستقلا؟ فقلت والله كأن هذا مستنطق أنطقه الله، فبدأت أجمع عن السنن بتوسع، المفهوم والخصائص والآثار، فكانت أول دراسة لي عن “مفهوم السنن وموقف المسلمين منها بين الوعي والسعي”، ثم كلما زدت في القراءة كلما تطورت الفكرة ونضجت إلى حد ما، و مازلت أقول إن هذا المجال مجال خصيب فتوفقت فيه إلى حد ما وأنتجت هذا الإنتاج المتواضع، وهي فرصة أن أدعو إخواني الباحثين وأخواتي الباحثات أن ينعطفوا إلى هذا الميدان الذي تحتاجه الأمة والتي هي عطشى إليه وفي أمس الحاجة إليه.
الدكتور خميس: نود أن نتعرف على مفهوم “السنن الإلهية”، خاصة من زاوية القرآن الكريم الذي أشار صراحةً وضمنًا لهذا المفهوم؟
الحقيقة، أولى بالحديث عن هذا أخي الفاضل فضيلة الدكتور رشيد، لكنكم أبيتم إلا الكرم وإلا حسن الاستضافة في كل شيء، بداية من الإعلان والصورة ومرورا بالترتيب، مع أن الترتيب الأصلي أن يتحدث الدكتور رشيد ثم أعقب إذا كان لدي أصلا تعقيب.
السنن باختصار هي القوانين الضابطة التي تحكم سلوك الإنسان على مستوى العمران أو الاجتماع أو المستوى الإنساني، على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي. فهي القوانين الضابطة التي بثها الله سبحانه وتعالى لتحكم مسيرة الإنسان في الحياة والتي رتب الله عز وجل عليها مسألة الجزاء والعقوبة بصورة مباشرة، حتى إننا نرى ترابط السنن في الآية القرآنية بصورة شرطية كأنها تتحدث عن معادلة رياضية أو تركيبة كيميائية، أو كما تقول: بما أن … فإذن، كذلك الصور التي ترد عليها السنن الإلهية. وكثير من الباحثين يسميها السنن الإلهية، ولكني آثرت أن أسميها السنن الربانية وذلك لأني لمحت فيها أن قضية السنن ليست مجرد قوانين سائبة إنما وراءها آثار تربوية يريدها الله سبحانه وتعالى من ناحية العفوية والجزاء، من ناحية الانتصار والانكسار، من ناحية المنع والمنح، من ناحية الابتلاء والعطاء والشدة والرخاء ونحو ذلك.
هذه السنن هي قوانين ثابتة تجري على الإنسان، تجري في العمران، تجري في الاجتماع. والحقيقة، من الأشياء التي أنبه إليها نفسي وإخواني وأخواتي أن كثيرا من الناس يخلط بين مناخات السنن، فيطبق السنن الخاصة بالأفراد على الدول أو الجماعات، أو يطبق السنن الخاصة بالشعوب على الأمم، وهنا يحدث خلط كبير. فمفهوم السنن مفهوم ضابط ومفهوم مطرد، ومفهوم له ثبات واستقرار وأقام الله سبحانه وتعالى عليه الحياة، النجاح والفشل، الانتصار والانكسار، هلاك الأمم وبقاء الأمم، إلى غير ذلك من السنن التي لها مسارات متعددة وبحر واسع يحتاج إلى الاستقصاء والإخراج بالمناقيش كما يقولون.
الدكتور خميس: إذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية قد أوليا مفهوم السنن الإلهية اهتمامًا كبيرًا.. فلماذا لم يترسخ هذا المفهوم بالقدر اللازم في السلوك الإسلامي، تفكيرًا وممارسة؟
أحسن الله إليك وهذا سؤال إجرائي وسؤال عملي. الحقيقة، عناية القرآن الكريم بسنن الله سبحانه وتعالى عناية لافتة للنظر. وردت كلمة السنن في القرآن الكريم ودارت تقريبا ست عشرة مرة، في تسع سور، في إحدى عشرة آية من آيات القرآن. وأيضا تناول القرآن الكريم قضية السنن بصورة عملية إجرائية في الربط بينها وبين سنن الله تعالى في الأكوان.
أكرر كثيرا ما يذكره الطاهر بن عاشور رحمه الله و رضي عنه و أرضاه، عندما يربط بين قوله سبحانه و تعالى: {ذلك و من عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصره الله}، ثم تأتي الآية التالية: {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل}، و يعلق الطاهر رحمه الله بأن السر في هذا الترابط أنه لا توجد سنة من سنن الله في الإنسان إلا و يعقبها سنة من سنن الله في الأكوان، حتى إنني تتبعت هذه الفكرة بصورة إحصائية و قدمت فيها دراسة لم تنته بعد، و هي قضية التزاوج و الترابط بين سنن الله في الإنسان و سنن الله في الأكوان، و كذلك القصص القرآني، لا تكاد تخلو قصة من قصص القرآن الكريم و لا مثل من أمثال القرآن الكريم إلا و فيه حديث عن سنن الله سبحانه و تعالى في الأنفس و في الآفاق، إن صراحة و إن ضمنا. لكن لماذا غاب هذا المفهوم؟ حقيقة، هذا المفهوم ما غاب، هذا المفهوم مارسه الجيل القرآني الفريد بتعبير صاحب الظلال رحمه الله، مارسه ممارسة حقيقية وإن لم يدونه. وأجاب عن هذا السؤال الشيخ رشيد رضى رحمه الله فقال: إن الصحابة لم يدونوا السنن مثلما أنهم لم يدونوا كل العلوم التي نضجت فيما بعد. فهم لم يدونوا الفقه، لم يدونوا أصول الفقه، لم يدونوا الحديث، لكنهم مارسوا هذه السنن بصورة حقيقية. واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يغرس هذا المعنى كما تفضل أخي فضيلة الأستاذ الدكتور رشيد، استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يغرس هذا المعنى في نفوس الصحابة. فحديث السفينة مثلا: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها”، مثال حي على غرس النبي صلى الله عليه وسلم لقضية السنن. حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا).
هذا الربط بين الكائنات وبين الكون المنظور وبين سنن الله في المسطور كان حاضرا في أذهان النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حاضرا كذلك في الأجيال التالية، لكن من ناحية التأسيس والتدوين تأخر هذا العلم إلى سنوات قريبة ماضية. ولعل سببا من هذه الأسباب صراحة هذا الاستبداد السياسي الذي تعيشه الأمة منذ عشرات السنين، فلا تكتب دراسات إلا الدراسات التي توطئ ظهور الأمة للاستعباد والاستبداد، أما الحديث عن فقه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أما الحديث عن العلاقات وقيام الحضارات واندثار الحضارات، أما الحديث عن سنن الله سبحانه وتعالى المنداحة في الأنفس والآفاق، تأخر الحديث عنها إلى حد كبير حتى أتت هذه الأعصار التي نعيشها منذ بضع سنوات مضت.
وطبعا هذا لا ينفي أن الكتابات موجودة فيها، لكنها كانت مبثورة، وجدنا مثلا عند الشافعي، عند الإمام الغزالي أبو حامد، وجدنا عند الشاطبي، وجدنا عند عدد كثير. ولعلي فضيلة الأستاذ عثمان أقول لك وللمتابعين الكرام والمتابعات الكريمات، أقول لك عن يقين: لم أجد شخصا تناول الإصلاح لهذه الأمة إلا ولمس أمرين ظاهرين: لمس الجانب السنني في حياة الشعوب ولمس الجانب اللغوي في حياة طلاب العلم وإصلاح اللغات. وكنت أتعجب من هذا، كنت أقول: لماذا يتوفر الشيخ رشيد رضى والشيخ محمد عبده على دلائل الإعجاز وأسراره.. ما العلاقة؟ اتضح عندي بعد ذلك وفهمت بعد ذلك أن المدخل اللغوي مدخل مهم لفهم السنن، بل مدخل مهم لفهم معظم العلوم التي نعيشها. فالكتابات موجودة من قديم لكنها كتابات متناثرة، لكنها نضجت وبدأت تأخذ طريقها إلى الاستواء في هذه الأعصار التي نعيشها.
الدكتور خميس: كيف نفعِّل الاهتمام بالسنن الإلهية، ونعيد إليها الاعتبار في التفكير الإسلامي؟
في الحقيقة، أخي عثمان، هذه الأمة كما يقول شيخنا العلامة الشيخ الغزالي رحمه الله: “أمة تمرض لكنها لا تموت، وكيف تموت وهي تستمد قوتها من الحق والحق حي لا يموت”. فمهما عرض لها من عوامل الفساد والإفساد والاستبداد والاستعباد إلا أن عوامل الصحة والسلامة مازالت سارية فيها كما يقول مجدد العصر الأستاذ حسن البنا رحمه الله. مازالت هذه الأمة قادرة على النهوض مرة أخرى، والأمة كلها تمر بمراحل الصعود والهبوط، وهذه سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، ليس بين الله وبين الإنسان نسب، ولكن وضع الله سبحانه وتعالى هذه السنن حتى يستفيد منها الناس ويتعلم منها الناس وتستفيد منها الأمم أيضا على حد سواء. فهذه الأمة قادرة على إعادة سيرورتها مرة أخرى، وكما يقول العربي قديما:
“و أي حسام لم تصبه كلالة *** و أي جواد لم تخنه الحوافر”
لكن الإشكال ليس في أننا انكسرنا أو انحسرنا ولكن الإشكال في أن تغيب عنا عوامل الصحة والسلامة مرة أخرى، فهذه الأمة قادرة على أن تعود مرة أخرى وأن تنهض مرة أخرى، ومادام فيها هؤلاء العلماء وطلاب العلم الحريصون على نهضة الأمة والحريصون على ربط العلم بالعمل، فإن الأمة إلى خير وفي خير إن شاء الله.
نستطيع أن نفعل هذا من خلال البرامج العامة، نستطيع أن نفعل هذا من خلال إدراج السنن الربانية في مقررات أبنائنا الدراسية. وهنا أذكر محمدة لكلية الشريعة في جامعة قطر، الحقيقة أنها من أوائل الجامعات التي جعلت مقررا خاصا بعلم السنن، مقررا مستقلا وبثت هذه الروح في كل المقررات خاصة في الجوانب المتشابكة بين العلوم بعضها البعض.
ففي السيرة كما تفضل الدكتور رشيد مشكورا، في الحديث، في التاريخ، في العقائد، في التفسير بلا شك، في ميادين متعددة، نستطيع أن نفعل الجانب السنني فيخرج طالب العلم عنده إدراك بالعلاقة بين المقدمات والنتائج، عنده إدراك بأن نصرا لا يكون إلا إذا أخذنا بأسباب النصر، وأن نجاحا لا يكون إلا إذا أخذنا بأسباب النجاح. فيستطيع الإنسان على المستوى الفردي أن يغرس في أولاده هذه المعاني ويربيهم على هذه المفاهيم. ويستطيع أصحاب القرار في وزارات التربية والتعليم وفي الجامعات في التعليم العالي أن يدخلوا هذا الوعي السنني الذي هو يخص الأمة كلها، لا يخص شريحة معينة من الباحثين والدارسين، ولا يخص جيلا، الشباب أو الفتيان، وإنما يخص الأمة كلها لأن الأمة عندما تدرك موطن الداء وتعرف أين الدواء تستطيع أن تتخلص مما هي فيه. يعني المظلوم لا يظل مظلوما أبد الدهر، والضعيف لا يظل ضعيفا أبدا الآبدين ولكن هذه سنن وتداول كما أراد الله سبحانه وتعالى.
سؤالي عن بيان علاقة السنن الإلهية بتفسير القرآن الكريم، بمعنى آخر إلى أي حد يمكن اعتبار فقه السنن الإلهية مدخلا للتفاعل مع كتاب الله تفسيرا وتدبرا وشرطا من شروط صناعة المفسر العامل على وصل المسلمين بكتاب الله إليهم هدى ونورا وشفاء؟
أحسن الله إليكم جميعا، واختصارا أقول: العلم بالسنن شرط من شروط التعرض للتفسير خاصة في زماننا وواقعنا المعيش. وقبل الحديث عن علاقة علم السنن بعلم التفسير أقول تتمة لما تفضل به أخي فضيلة الدكتور رشيد مشكورا، إن علم السنن له تماس بكل العلوم الشرعية والعربية بلا استثناء، وهذه نماذج أستطيع أن أطرحها سريعا وأستطيع أن ألفت نظر الباحثين والدارسين إليها بصورة حتى يأخذ كل واحد في تخصصه الزاوية السننية فيشيع الفكر السنني بصورة مناسبة.
وأنا أحيل المتابعين الكرام إلى بحث ماتع لأخي الدكتور رشيد نشره في كلية الشريعة، جامعة قطر، لا أذكر عنوان البحث الآن، الدكتور رشيد يذكرنا بعنوانه، البحث قرأته من فترة طويلة، وفي نهايته ذكر مشكورا العلاقات بين علم السنن وبين باقي العلوم، وإن كانت إشارات سريعة لكن هذه الإشارات يلتقطها الباحث ويؤسس عليها، وهذه هي البحوث المنتجة المثمرة التي تفتح سؤالا أو تثير سؤال من يأتي بعدك. موضوع السنن وعلاقتها بالقرآن والتفسير، هذا هو الميدان الأساسي لها، وهذا هو المحضن البكر لهذا العلم الكبير، وهو في نظري لا بد أن يعد شرطا من شروط المفسر حتى يقدم للناس فكرة عملية إجرائية مضبوطة بين النتائج والمقدمات.
الدكتور خميس: كيف بدأ الاهتمام بالسنن الإلهية في العصر الحديث؟ وما أبرز الكتابات في ذلك؟ وهل فعلا كان للمغاربة سابقة وتميزا في هذا الباب على المشارقة؟
هذا سؤال محرج يا شيخ عثمان، هذا سؤال يوقع المشارقة في المغاربة، و أنا متهم بحبي للمغاربة و ملوم، لكني و الله أقول ما أعتقد، و أعتقد ما أقول. أنا أمزح فقط، الحقيقة، علم السنن في الفترة الأخيرة بدأت الكتابات فيه بصورة واضحة في تفسير الشيخ رشيد رضى ” تفسير المنار”، كما قلت حتى أنه لا تكاد تخلو صفحة من صفحات المنار من الحديث أو الإشارة إلى سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في الأنفس والآفاق. والمدرسة العقلية، مدرسة المنار بأسرها هي مدرسة سننية من وجهة نظري. جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضى، عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، الشيخ الغزالي، الشيخ القرضاوي، كل هؤلاء رواد المدرسة الإصلاحية كما أسميها أو المدرسة العقلية كما يرغب بعض الفضلاء أن يسموها كذلك. وبدأت الكتابات لإخوتنا المغاربة، وحقيقة هم متميزون من ناحية التجميع والتأصيل والتأطير بصورة لافتة للنظر، وأنا أقول هذا من فترة طويلة، أقول: الإخوة المغاربة، طبعا ليس هناك في ذهننا أصلا تفريق، وأنا أقول في كل مكان:
ولست أدري سوى الإسلام لي وطنا *** الشام فيه ووادي النيل سيان
وكلما ذكر اسم الله في بلد *** عددت أرجاءه من لب أوطاني.
وكما يقول الآخر:
يا أخي في الهند أو في المغرب *** أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي *** إنه الإسلام أمي وأبي.
أفرح للكلمة التي تأتي من أي مكان وأنتفع بها من أي مكان. إخواننا المغاربة متقدمون ومتميزون في جانب السنن، في جانب المقاصد، في جانب المصطلح، وإن سبقهم المشارقة في الكتابة إلا أن إخواننا وأساتذتنا المغاربة، أقصد المغرب العربي الكبير كله سبقوا من ناحية الإكثار في الإنتاج، ووضع النقاط الرئيسة التي يحتاجها القارئ بصورة مركزة. فلو قمنا بعمل جرد إحصائي وقارنا بين الإحصاءات لوجدنا أنهم خدموا هذا الجانب. فهناك مختبرات، يعني مختبرات السنن كالمختبر الذي يقوم عليه فضيلة الدكتور رشيد، مختبرات المصطلح كالمختبر الذي يقوم عليه فضيلة الدكتور الشاهد البوشيخي، ومختبرات لزوايا دقيقة، وهذا هو التطور الطبيعي للعمل الأكاديمي.
وأنا أهيب بإخواني الباحثين والباحثات أن يلتقطوا أطراف الخيط من كل مكان ومن أي مكان، فنحن أمة واحدة، ومازال الخير في هذه الأمة كثيرا، ومازال كبيرا ووفيرا بعون الله سبحانه وتعالى، وكم ترك الأول للآخر، أنا قلت إن أخي الدكتور رشيد كتب إشارات سريعة، من يقرأ هذه الإشارات يمكن أن يستخرج منها زوايا في تخصصه هو، ليس بالضرورة أن يكون مختصا في الدراسات القرآنية، يعني الزوايا التي أشرت إليها، كل صاحب تخصص يمكن أن يربط بينها وبين تخصصه بهذه الصورة فينتج ويثمر دراسة جديدة وعملا جديدا. أحسن الله إليكم.
أنتجتم العديد من الكتب والدراسات حول الموضوع وأشرفتم على العديد من الأبحاث والأطروحات فيه، فما هي الآفاق التي يمكن للباحثين استشرافها من خلال ما توصلتم إليه، وكيف تقيمون البحث في هذا الحقل المعرفي؟ ومن خلال تجربتكم الطويلة في الموضوع ما هي مقترحاتكم لاستنبات الفكر السنني لدى الأجيال المتعاقبة؟
أحسن الله إليكم وتقبل أعمالكم. الحقيقة، مجال السنن مجال خصيب ومجال مازال بكرا، ومازال قادرا على العطاء والإنتاج بصورة كبيرة. وكما ذكرت، على مستوى الدراسات القرآنية والتفسيرية، مازالت هناك مشاريع تستحق أن تنتج وأن تنجز، وعلى مستوى باقي العلوم هناك مجالات يمكن أن يكتب فيها. والحقيقة، عدد من الباحثين والباحثات ألفت نظرهم إلى هذا الميدان، ينعطفوا إليه انعطافا لأنه يجمع بين الجانب التأصيلي والجانب الذي تحتاجه الأمة في هذه الفترة سواء على مستوى دراسة سنة من السنن أو دراسة السنة في ضوء سورة من سور القرآن الكريم أو دراسة الترابط الموجود على مستوى المقدمات والنتائج، فهو مجال خصب سواء في الدراسات التفسيرية أو القرآنية أو في باقي العلوم، وهو مجال طبعا لبه وأصله التفسير الموضوعي.
هل من كلمة ختامية جامعة حول موضوع السنن الربانية كما تحب أن تسميها؟ وعن السنن الربانية في الصراع مع الصهاينة؟
أحسن الله إليكم وتقبل أعمالنا وأعمالكم. الحقيقة، هذه الأسئلة إن دلت على شيء فإنما تدل على هذا الوعي وهذا الرشد في التفكير، وأنا شاكر لهذه التدخلات العميقة والكريمة والتي أنا فخور بها وسعيد بها. إن دل هذا على شيء فإنما يدل على ما أميل إليه وأذكره كثيرا من سبق وعمق إخواننا المغاربة في هذا الميدان على مستويات متعددة.
تحدث أخي فضيلة الدكتور رشيد مشكورا عن سنة الله سبحانه وتعالى في التغيير وعن الآيات التي ورد فيها التغيير: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، وفي قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، ولعل التعبير بـ”ما” التي تدل على الإبهام ليسبح و يسرح العقل المسلم في هذا المطلوب تغييره حيث شاء. أما من ناحية كيفية التماس بين السنن وباقي العلوم فذكرنا في ثنايا الحديث بعض مواطن التماس وفيها تفصيل يمكن أن يدرس في كل علم على حدة، ويمكن أن نراجع كتاب فضيلة الدكتور رشيد مشكورا حتى نكسب الوقت. لكن في كل علم من العلوم له علاقة بعلم السنن بصورة أو بأخرى. وأقول إن علم السنن هو أحد العلوم البانية، وهو جزء من التفسير الموضوعي بالأساس، لكننا كما تعلمنا من شيوخنا أن هذه الأمة أمة ولادة، حضارة المسلمين حضارة ولادة للعلوم، ينشأ العلم شيئا ثم يتمدد ويتسع فيتولد منه علم آخر وآخر وهكذا.
أما عن السؤال: ما الحلول المطروحة لتدبير هذا الصراع القائم بين اليهود والمسلمين؟ حقيقة، هذا السؤال تجيب عنه الأمة، لا يجيب عنه باحث ولا دكتور ولا مختص في الدراسات القرآنية. هذه الأسباب ينبغي أن تكون من الفرد على الأمة ومن الأمة إلى الفرد، العود الرشيد إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وإلى منهاج الله عز وجل كلا وتفصيلا هو إجابة هذا السؤال:
سألت نفسي والأحداث محدقة *** وعاصف الدهر ترمينا شظاياه
ماذا بنا إخوتي والريح معولة *** والكأس ملأى بما قد ليس نهواه
كنا نرى الكون من آفاق شرفتنا *** ونحن بالعز والمجد نرقاه
وعدت والنفس بالآلام مثقلة *** أسائل الأمس ماذا لو أعدناه
أجابني ووريث العز يرمقه *** عودوا إلى الله يرضى عنكم الله.
فالعود الرشيد إلى الله سبحانه وتعالى في كل المجالات، نحن أحيانا نلقي التبعة على جهات معينة، نحن نريد أن يبدأ التغيير من داخل كل نفس تحرص على التغيير، في البيت، مع الزوجة، مع الأولاد، في التفكير، في التربية، في التزكية، في التعليم، في إنشاء جيل حق يحمل رسالة الله عز وجل، لا نخرج للناس نماذج أصحاب عقول متضخمة وضمائر دابرة. نحن نريد أن نعلم الناس الجمع بين الوعي والسعي، بين الإدراك والحراك، بين العلم والعمل، بين التأصيل والتنزيل، بين الفهم والتسخير، بين أن يكون عالما وباحثا وبين أن يكون عاملا لهذا الدين بحق حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
الجزء الأخير الذي أختم به، معرفة السنن الكونية في غرس اليقين. فالله سبحانه وتعالى مزج بين سنن الله في الأنفس وسنن الله في الأكوان، فقال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}، ولشيخنا الشيخ الغزالي كلمة بديعة أختم بها كسبا لوقتكم النفيس يقول: “لله في كونه كتابان مسطور ومنظور، فالمسطور هو القرآن والمنظور هو الكون. فالكون قرآن منظور، والقرآن كون مسطور، والكون صنع الخبير والقرآن كلام الخبير ولا يخالف كلام الخبير صنعه”. وبهذا الوعي يستطيع الإنسان أن يربط بين سنن الله في الكون، فالماء يغلي عند درجة معينة ويتجمد عند درجة معينة، هذه مسائل ثابتة تؤتي ثمارها مع الصالح والطالح والمؤمن والكافر، فكذلك سنن الله سبحانه وتعالى في الإنسان. وأقول مرة أخرى حصرا، لا تكاد تجد سنة من سنن الله في الإنسان في القرآن إلا ومعها سنة من سنن الله في الأكوان حتى يقرب الله عز وجل المعنى للقارئين لهذا الكتاب الكريم.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل الأحداث التي نعيشها ونتابعها في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس بداية النهاية لهذا الجيل الصهيوني الذي دنس الأرض والعرض. وأنا أدعو إخواني وأخواتي أن يقرؤوا كتابا بديعا لأحد شيوخنا الكرام، أحد عباقرة الإسلام وهو الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، مع أنه من أكابر العلماء في التخصص ومع أنه من النوادر إلا أن كثيرا منا قد لا يذكره أو لا يعرفه لأنه لا يحرص على الظهور. وهو في التسعينات من عمره الآن، له كتاب ماتع اسمه: “معركة الوجود بين القرآن والتلمود”. تجدون هذا الكتاب وتتمتعون به، وهو يؤسس ويؤصل للعلاقة والصراع بين المسلمين وبين اليهود كما تفضل الدكتور رشيد مشكورا، إنها بحق معركة وجود لا معركة تراب وحدود. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من جنده الفاتحين وعباده الممكنين وأحسن الله إليكم على كرم الاستضافة وحسن الاستقبال.