الروائي العالمي الأديب دكتور عمر فضل الحائز على جائزة الطيب صالح العالمية والشاعر والباحث والخبير الاستراتيجي في تقنية المعلومات وأنظمة الحكومة الإلكترونية ولد ونشأ في مدينة العليغون في الأول من ينايرعام 1956حفظ القرآن والشعر وهو صغير واجتاز امتحانات الشهادة الثانوية من منازل الخرطوم وكان من العشرة الأوائل والتحق بجامعة الخرطوم حيث أمضى فيها سنة واحدة ثم غادرها لعدم استقرار الدراسة فيها وسافر إلى المملكة العربية السعودية حيث أكمل تعليمه الجامعي في جامعة الملك عبد العزيز بجدة وفيها نال شهادة البكالوريوس في الإعلام عام 1981 ثم سافر بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث نال درجتى الماجستير والدكتوراة في علوم الحاسب الآلي تخصص نظم المعلومات، وعاد بعدها للعمل بالمملكة العربية السعودية حتى العام 1991 حيث رجع لوطنه السودان كان من ضمن المؤسسين لمركز الدراسات الاستراتيجية والمركز القومي للمعلومات بالسودان وبعدها إلى دولة الإمارات العربية وهو من أوائل الشهادة الثانوية السودانية، التحق بعدها بجامعة الخرطوم العريقة كلية الاقتصاد وتركها بعد سنة لعدم الاستقرار حصل على منحة دراسية بجامعة الملك عبد العزيز بجده كلية آداب علوم الإعلام والاتصال بالعام 1976 ليتخرج منها عام 1981 بدرجة بكالوريوس إعلام، ليسافر بعدها إلى الولايات المتحدة الامركية تحديداً ولاية كاليفورنيا مدينة لوس أنجلوس ليحصل على درجتي الماجستير فالدكتوراة عام 1987 بجامعة كاليفورنيا. حوارته نبض المهاجر في العديد مما جاء في سيرته البازخة نبض المهاجر – كالفورنيا أدلف مباشرة إلى سؤالي بعد تلك المقدمة عنك .. عدد من الأدباء لهم علاقة بحفظ القرأن في حياتهم المبكرة ما العلاقة بين حفظ القرأن والابداع الأدبي ؟ – القرآن ينمي عقل الطفل ويوسع معارفه ومداركه وذخيرته اللغوية وبلاغته وخياله فالطفل حين يحفظ القرآن يضيف لقاموسه اللغوي سبعاً وسبعين ألف مفردة كما أن القرآن ينمي خيال الطفل فهو مليء بأحسن القصص الواقعية الجميلةوقراءته ترقق الشعور وهو ما يحتاجه الأديب ليبدأ رحلة الإبداع. هل ساهمت خبرتك في الشئون الإستراتيجية وتقنية المعلومات وأنظمة الحكومة الالكترنية بشكل ما في ابداعك الأدبي ؟ – العكس هو الصحيح فقد ساهمت معارفي الأدبية في إذكاء خبرتي في مجال الشئون الاستراتيجية لأن التخطيط الاستراتيجي ينبغي أن يبنى على معرفة متينة بالمجتمع الذي تخطط له أما مجال أنظمة الحكومة الالكترونية فهو مجال تقني بحت يتم اكتسابه بالتعلم والممارسة. وثقت لتأريخ السودان عبر الرواية أليس لإضافة بعض الخيال للكاتب يفقد التأريخ بعض مصداقيته ؟ – أنا لا أكتب تاريخاً بل أكتب رواية معرفية ويجب أن تقرأ أعمالي الروائية باعتبارها روايات وليس تاريخاً رغم أنها تلعب في ميدان التاريخ فتقدمه للقاريء بصورة محببة في شكل قصص وتحتفظ بالحقائق التاريخية كما هي دون تغول عليها وتضيف إليها نكهة من خيال وكل ذلك في وعاء واحد لكن جرعة الخيال لا تطغى على الحقائق التاريخي ولا تشوهها وذلك يسهل عبور المعرفة إلى القاريء خروجك من السودان في مرحلة مبكرة جدا ما الذي دفعك للكتابة عن منطقة سوبا ومجد دولة علوة والسودان الكبير عبر رواياتك ترجمان الملك وأنفاس صليحة ؟! – معظم أعمالي الروائية مرتبطة بمنطقتي وهي منطقة العيلفون فسوبا هي العيلفون تقريباً إذا لا تبعد عنها أكثر من خمسة كيلومترات فترجمان الملك هي عن مجد دولة علوة لكونه تاريخ منسي مغمور لم يجد حظه من النشر وكذلك مسألة هجرة الصحابة إلى الحبشة التي كانت إلى السودان بينما انخدع الناس بمسى الحبشة الذي كان يطلق على بلادنا في القديم فظنوا أن الهجرة حدثت إلى اثيوبيا الحالية. وكذلك أنفاس صليحة وتشريقة المغربي تحكيان عن نفس المنطقة وأيضاً رواية نيلوفوبيا عن طالبات مدرسة الجريف شرق اللائي احترقن في الباخرة العاشر من رمضان في بحيرة النوبة وهكذا بقية أعمالي الروائية توثق لمنطقتي عبر العصور المختلفة للتاريخ حتى يومنا هذا. نالت روايتك تشريقة المغربي جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي وحصدت رواية أنفاس صليحة جائزة كتارا للرواية العربية في تقديرك لماذا هاتين الروايتين حصدتا الجوائز ولك العديد من الروايات الرائعة كنيلوفوبيا ورؤيا عائشة وغيرها – حين كتبت قبلهما ترجمان الملك وأطياف الكون الآخر ونيلوفوبيا لم أتقدم بها للمسابقات الأدبية لكن نصحني أصدقائي بالمشاركة في المسابقات فكانت أول الأعمال هي تشريقة المغربي وفازت ثم أنفاس صليحة وفازت أيضاً. أما رؤيا عائشة وغيرها من الأعمال فقد تمت كتابته مؤخراً وقد أشارك بها في المسابقات أو لا أشارك. نظمت الشعر حدثنا عنه واتحفنا بقصيدة من نظمك – نظمت الشعر منذ أن كنت تلميذا في المدرسة المتوسطة وأحفظ الشعر القديم والحديث ثم توقفت بعد إصدار ديوانين هما زمان الندى والنوار أيام الشباب وزمان النوى والنواح أيام الهجرة والاغتراب. وإليك جزءاً من قصيدة إسمها قيوم حي: قلبي طَيرٌ في قفصِ الأضلاعْ.. يَخْفِقُ مُذْ قُلْتَ لَهُ كُنْ.. سُبْحَانَكَ.. دَقَّ فَدَقَّ وعَظُمَ فَرَقَّ وعَرَفَ فأبصَرَ.. أنَّ الكونَ الحَىْ وَغيْرَ الحَيْ وَغَيْرَ الكَوْنِ بدونِ رِضَائِكَ لَيْسَ بشيْ أحَبَّ فَخَفَقَ بنبضِ الحُبِّ وَحُبِّ الرَّحْمَةِ فَيْءَ الفَيْ وَانْسَكَبَ جَمَالُ وَنُورُ جَلالِ بَهَائِكَ فَوْقَ ظَلامِ وَدَجْنِ الغَىْ فَانْفَرَد الطىْ *** نفسي مُهَجٌ رُوِيَتْ وَامْتَلأتْ رِىّْ قلبي بَهِجٌ بِلِباسِ التَّقْوىَ نِعْمَ الزِّىْ ولساني لّهِجٌ بالتهليلِ يُسَبِّحُ للقيومِ الحَيْ حَيٌّ قَيُّومْ، قيومٌ حَىْ، فَأضاءَ ظلاماً كان سِتاراً بين يدي وانجلت العتمة من عينيْ فوضعت الغفلة تحتي أسفل من قدمي وسمعت الذكر قريباً من أذنىْ يجلجل في الأصماخ يقول إليَّ إلىْ قيومٌ حيْ انتقالك من دولة لأخرى من السودان للسعودية للامارات لمصر للولايات المتحدة الأمريكية . عدم الاستقرار آلم يؤثر على منتوجك الأدبي ام زاده ثراء ؟ – الغربة تؤجج المشاعر وتسعر الحنين للأوطان وتضيف لكاتب الأعمال الروائية شفافية وخيالاً خصباً بينما تمنحه قلة العلاقات الاجتماعية الوقت الكافي ليكتب ولهذا تجدين معظم كتاب الرواية السودانيين الناجحين هم من أهل المهجر والاغتراب. الغربة زادت انتاجي ثراء بكل تأكيد. الإنتاج الأدبي بكافة أشكاله له لحظة تجلي وإلهام أين ومتى يحدث معك التجلي والإلهام ؟ – لحظة التجلي عندي مستمرة لا تفارقني ولو وجدت الوقت لملأت المكتبات بأعمالي الروائية وحين أجلس للكتابة فكأنما يأتي طيف يملي عليَّ ما أكتب فأكتب أعمالي مرة واحدة ولا أعدل فيها بالزيادة والنقصان إلا قليلاً. صنفت بعض روايتك برواية المعرفة كيف جمعت بين الرواية والمعرفة ومعروف ان الرواية ضرب من الخيال – معلوم أن التخييل هو كل تاريخ يُبنى على وقائع في عقل المؤلف أكثر منه على وقائع حقيقية وأن الشخوص التي يستحدثها المؤلف هي مجرد شخصيات خيالية أيضاً بيد أن الوقائع الممثَّلة في التخييل ليست كلُّها بالضرورة متخيلة، وذلك مثلما هو في حالة الروايتين التاريخيتين (تشريقة المغربي) و (في انتظار القطار) مثلاً فأنا أسستهما على وقائع تاريخية مؤكدة، أستغل فيها فراغات التاريخ وفجواته فأدخل فيها شخصيات وأحداثا مستوحاة من خيالي لكنها تخدم التاريخ وتسير في خطه. وإذا كانت بعض الأحداث أو الشخصيات متخيّلة، فلا ينبغي بالقدر ذاته أن تكون غير حقيقية فعنصر التخييل في رواياتي يسير جنباً إلى جنب في نسيجه السردي وسداه مع الحقيقة التاريخية. ومع أني أقود القاريء عبر التخييل في عرض مادته الحكائية لكني لا أمنح الخيال الهيمنة الكاملة بل أجعل من الخيال مجرد عنصر مساعد فقط لتمكين الحقائق التاريخية في ذهن القاريء عبر السرد ولي القدرة على مزج التخييل التاريخي، والعجائبي والذاتي مع الحقيقة التاريخية في نسيج متميز ينتج لكم الرواية المعرفية. فالمعرفة في أحد تعريفاتها اللغوية هي السرد نفسه لكونها تشرح علاقة السرد كخطاب بالمعرفة كتجربة فآلية التخييل التي تعيد بناء التجربة النوعية وتسريدها من خلال نصٍّ تعاقُبيٍّ في الحبكة الروائية المتصلة تقوم بتحريك التاريخ وتقديمه للقاريء ليس باعتباره تجربة ماضية منقطعة، بل باعتباره فكرة دائمة التدفق شاخصة في الزمان وشاهدة على أحداثه من خلال الرواية المعرفية. وهنا ينبغي أن تجلى عبقرية سرد الحبكة الروائية التي تستعير أحداث الماضي وتخرجها من سياجها الموضوعي والزماني لتطلقها في فضاء الحاضر متكئة على إمكانات المؤلف المعرفية وتقنياته الكتابية، وملكته اللغوية، وتدمج كل ذلك في إشكالات الحاضر وهمومه ولهذا فرواياتي المعرفية تربط كل ذلك بأسئلة الهوية السودانية وثراء وتنوع مجتمعنا الحاضر. وأما القاريء فيأتي دوره في توقع صدق الحدث الروائي ليتحقق المعنى عنده منها، حتى لو جاءت الوقائع المحكية مفارقة لواقعه وفكره، إلا أنها تمثل ملامحَ من تاريخه الثقافي والحضاري، وتخاطب لاشعوره الجمعي. ولا يتأتّى هذا التخييل لأيّ كان، لأنه ليس شكليّا أكثر منه معرفيا وروحيا، إلا لسارد مقتدر ومتشبع بالتجربة وعارف بمضايقها، ومساربها فهو ينقلها ويخبر بها القارئ على النحو الذي يسمح له بفهمها وتذوّقها؛ ثُمّ هو يؤوّلها في حاضره بلا تعسُّف أو خلط. أنا أدخل من خلال رواياتي في حوار تخييلي مفتوح مع الشخوص الحقيقية للرواية التاريخية (كما في رؤيا عائشة) لأرسم صورة روائية تخييلية لكنها تقترب من الحقيقية لهؤلاء الشخوص بحيث تملأ كثيرا من الفراغات والفجوات بقدر ما يُقرّبهم من القراء حين أقوم باستدعاء التاريخ وإعادة بنائه نصّيا على النحو الذي لا يصادم حقيقته على وجه الإمكان والاحتمال، ويجعل ذاكرة الحدث ضرورة من أجل الحاضر والمستقبل. سيرة المهدي والمهدية كتبت باقلام عدد من الكتاب والمؤرخين وخصصت روايتك رؤيا عائشة للغوص في سيرة المهدي والمهدية هل لأنك مؤمن بقصور المؤرخين التقليدين لهذا التاريخ او لزيفهم ؟ – الكتاب والمؤرخون كتبوا عن المهدية بصورة عامة لكنهم أغفلوا حياة المهدي الشخصية فجاءت رؤيا عائشة لتكمل هذا الجانب عبر رواية حقيقية عن حياته بلسان عائشة زوجته وأقرب الناس إليه فالرواية تحاكم المهدي من خلال حياته الشخصية وتثير أسئلة حول صدق مهديته وترسم للقاريء صورة عن المهدي غابت عن أذهان كثير من الناس ولهذا فقد اعتبر النقاد أن رؤيا عائشة قد أضافت الجديد في هذا المجال. لك العديد من الروايات حدثنا عنها وعن كتاباتك عن الأسطورة – يلاحظ أن أعمالي تنتهج تسلسلاً تاريخياً : – (فأطياف الكون الآخر) مزجت بين الأسطورة والواقع منذ ما قبل بدء الخليقة وحتى عصرنا الحاضر – و(ترجمان الملك) كتبت التاريخ والسيرة بطريقة مبسطة وسهلة أعجبت القراء. – بينما كتبت (أنفاس صليحة) عن منطقة السودان الكبير عبر مغامرة انتهت في منطقة سوبا – وأما (تشريقة المغربي) فقد قدمت للقاريء الجديد عن السلطنة الزرقاء – بينما تعرضت في (انتظار القطار ) للغزو التركي للسودان – أما (رؤيا عائشة) فقد لخصت الدولة المهدية وحياة المهدي – بينما (آدم أسود وحواء بيضاء) ناقشت الغزو والاحتلال البريطاني للسودان وسقوط المهدية – أما (نيلوفوبيا) فقد كتبت عن حياة المجتمع في عهد الرئيس جعفر النميري من خلال مذكرات الفتى عبد العزيز (عزو). وهكذا .. كخبير إستراتيجي في الحكومة الإلكترونية دعنا نقف على رؤيتك لإدارة شأن بلادنا والخروج من أزماته – السودان لم يصل مرحلة التعافي منذ خروج الإنجليز من السودان فالحكومات المتعاقبة لم تجمع السودانيين وتوحدهم حول هوية جامعة ونظرة وطنية وغاية قومية واستراتيجية راسخة تعمل لبناء الدولة وتطويرها وخدمة المجتمع ولا سبيل لذلك إلا عبر التخطيط السليم بواسطة خبرات وطنية تجمع بين المعرفة والخبرة والحس الوطني وهو ما لم يحدث في بلادنا وأما الحكومة الإلكترونية فهي الذراع الذي ينظم أمر إدارة البلاد عبر الأنظمة الحديثة والتقنيات المتنوعة (تقنية الاتصالات والنظم الإدارية وغيرها) من أجل دولة المستقبل. في تقديري أن ذلك كله لم يبدأ بعد ولن يبدأ حت يحدث الاستقرار السياسي. ما رأيك في اﻷدب السوداني في المرحلة الحالية ؟ – الأدب السوداني (رواية وشعراً) متطور ومستمر بجهود فردية ومبادرات أهلية رغم اهمال السلطات الرسمية له. وقد شهدنا خلال السنوات الماضية قيام مؤسسات تعقد المسابقات في القصة والرواية والنقد والشعر وتمنح الجوائز التشجيعية والشهادات بينما نجد أن المسرح والسينما مغيبة تماماً عن المشهد الأدبي حتى ظن الناس أن الأدب هو الرواية والشعر ليس إلا. هل يوجد فرق بين ما يكتبه الرجال وما يكتبه النساء في الأدب عموما ؟ – كل له ذائقته ومحبوه فالانتاج الأدبي لا يتم تصنيفه وفقاً للنوع (مؤنث ومذكر) بل بجودة العمل وبراعة الكاتب وقدرته في تقديم إنتاجه وقد تتفوق الكاتبات الإناث على الكثير من الكتاب الذكور والعكس صحيح أيضاً. غير أننا في السودان نشهد تطوراً ملحوظاً في عدد الكاتبات الإناث كماً وكيفاً وجودة نوعية. من من الأدباء السودانيين والعرب والخواجات يواظب دكتور عمر على متابعتهم والقرأة لهم – لا يقرأ عمر فضل الله لكاتب أو لعمل محدد بعينه بل ينتقي الجيد من الأعمال بغض النظر عن المؤلف. وقد أقرأ لكتاب مغمورين لا يعرفهم إلا القليل ممن حولهم وأنأى بنفسي عن المجاملات والخوض في مجتمع الدعاية الرخيصة للأعمال والشللية التي طفحت على السطح للترويج للأعمال الهابطة. أعتبر نفسي قارئاً موسوعياً أقرأ في كل شيء لتأتي أعمالي المعرفية ناضجة وقد أحتشد لكتابة رواية مثلاً بأن أقرأ معظم ما كتب في موضوعها من مؤلفات حتى إذا جئت للكتابة قدمت للقاريء معرفة مفيدة مبنية على أسس متينة. يقولون منصات التواصل الاجتماعي سحبت البساط من القرأة في الكتب والصحف – كلٌ له رواده ومحبوه وكل له دوره الذي يؤديه ويسهم فيه فأنا أعرف كثيرين ممن لا يحبون القراءة من الوسائط الرقمية ولا الكتب الإلكترونية بل يحبون امتلاك وقراءة الكتاب الورقي بينما نجد عزوفاً في أوساط الشباب عن الكتب الورقية فيجدون مطلبهم في منصات التواصل الاجتماعي وفي ظني وتقديري أن دور الكتب والصحف الورقية لن ينتهي أبداً مهما تقدمنا في الرقميات ما المطلوب من إعلام السودان في المرحلة الحالية ؟ – تحري الدق وصحة المصادر مع الشفافية والمصداقية والنأي عن الابتذال مع الالتزام برسالة تدعم الإيجابية وترقي المجتمع لك عشق خاص بالعاصمة المصرية القاهرة ما هو سر ذاك العشق ؟ – القاهرة هي واحدة من المدن العربية التي تذخر بالمؤسسات الثقافية والنشاط الثقافي والأدبي وأنا محب لهذا النوع من النشاط ولي فيها أصدقاء ومعارف وصلات قديمة. ولو نظرت لوجدت أن كثيراً من عمالقة الروائيين السودانيين زاروا القاهرة أو استوطنوها وبقوا فيها كثيرا فعبقري الرواية الطيب صالح له بيت هناك وأسرته أقامت في القاهرة وكانت له صلات بكثير من الروائيين العمالقة. في الختام حدثنا عن رواياتك الجديدة التي ستشارك بها في معرض القاهرة الدولي للكتاب – سوف أشارك ضمن معرض القاهرة الدولي للكتاب عبر منصة دار البشير للنشر بمجموعة أعمالي كلها تقريباً لكن سوف أشارك أيضاً بأعمال جديدة تنشر لأول مرة وهي: – في انتظار القطار – آدم أسود وحواء بيضاء – نافذة في سماء الكهرمان – وهي الحلقة الأولى ضمن سلسلة روايات الزمن صفر – في الخيال العلمي
التفاصيلكيف ترون الحاجة إلى قراءة متجددة للقرآن الكريم؟ في سياق الحديث عن هذا السؤال، هناك مشكل كامن وراءه، وهو أن الله سبحانه وتعالى شاءت إرادته أن الوحي ينقطع، بموجب اعتقادنا نحن المسلمين؛ فالقرآن آخر نُسَخ الوحي من السماء.. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عاش المسلمون ما يزيد على أربعة عشر قرنًا حتى يومنا هذا، وهذه المدة الزمنية الطويلة بها عديد من المشكلات والتحديات والصراعات.. فلو أن الوحي مازال يتنزل طوال هذه المدة، إذن لم تكن ثمة مشكلة؛ لأن الوحي حينئذ كفيل بمعالجة ما يطرأ خلال تلك الفترات من مشكلات وتحديات. أَمَا وقد انقطع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم، فهنا ثمة إشكال، وهو أن القرآن الكريم لابد أن يستجيب لمطالب الأجيال القادمة، فيمنحها منهجًا وآلياتٍ ووسائلَ وطرقًا لعلاج المشكلات الحادثة.. فهذا أول سبب حقيقي لفكرة الدعوة إلى تدبر القرآن من جديد، وتجديد قراءته باستمرار.. يضاف إلى ذلك بُعْد تاريخي نستفيده من سلوك المسلمين عبر أجيالهم المتتالية، وهو أن معاودة النظر في القرآن الكريم على هَدْي المشكلات الجديدة سنةٌ ثابتة في الاجتماع الإسلامي. فالنبي صلى الله عليه وسلم قد فسَّر القرآن معالِجًا مشكلات راهنة هي مشكلا جيل التلقي، وهذا التفسير مرصود في كتب السنة النبوية، فنجد عند البخاري وغيره بابًا يسمى (باب التفسير)، وهو نشاط النبي صلى الله عليه وسلم في تنزيل القرآن الكريم على مطالب واحتياجات العصر الأول.. لكن في زمن الصحابة وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنهم لم يكتفوا بما عرفوه من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، بل أخذوا يضيفون إلى ذلك تفسيرًا خاصًّا بهم: (تفسير الصحابة)، وهذا يعني أحد أمرين: إما أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير كان ناقصًا؛ وهذا أمر محال عليه صلى الله عليه وسلم.. وإما أن ثمة جديدًا حدث دفعهم ليعاودوا النظر في كتاب الله على هَدْي مطالب الجيل الجديد؛ وهذا هو السبب المقبول لظهور (تفاسير الصحابة) بعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم.. وأيضًا لظهور (تفاسير التابعين) بعد تفاسير الصحابة. وكذا لظهور كتب متعددة من التفاسير في كل جيل لاحق بعد الجيل السابق.. حتى يومنا هذا. فظهور تفاسير جديدة متتالية لا يعني قصور التفاسير السابقة عليها، وإنما يعني أن جيل اللحظة الراهنة من حقه أن يستخرج مطالبه وحلَّ مشكلاته من القرآن الكريم؛ وهذا لا يكون إلا بقراءة متجددة للكتاب العزيز. ويمكن أن نضيف سببًا ثالثًا للسببين السابقين- اللذان هما سببان عقليان- يُستفاد من منهج الشريعة وأصول التفسير.. هو أن علماء القرآن يقررون أن النشاط التفسيري قائم على عمودين: عمود ثابت لا يتغير، وهو تفسير القرآن بموجب قواعد اللسان العربي: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف:3)، {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 28). وقواعد اللغة لا تتغير إلا إذا ماتت اللغة أو اختُرقت وغُزيت؛ وهو أمر غير حاصل في اللغة العربية. أما العمود الثاني فهو قواعد الزمان. وابن عباس رضي الله عنهما له قول مهم، هو أن القرآن يفسره الزمان؛ أي أن على كل جيل من أجيال المسلمين المتلاحقة أن ينظر في الكتاب العزيز على هَدي من مشكلات هذا الجيل (أي الزمان)، ثم يفهم هذه المشكلات في أصول قواعد اللسان.. وبتطبيق هذين الأمرين يَنتج لنا تفسيرٌ جديد: متفقٌ مع القدماء في الأصول اللغوية وما تقتضيه، ومختلفٌ عنهم في أنه يستجيب لمشكلات هذا الجيل الراهن. فمن حيث مقتضيات العقل وموجبات أصول التفسير، نحن بحاجة إلى تدبر جديد للقرآن الكريم. القول بضرورة هذه القراءة المتجددة للقرآن الكريم، ألا يفتح الباب أمام تطويع النص القرآني للواقع، أو لإسقاط الواقع عليه؟ بشكل نظري، نعم كل قراءة جديدة تحتمل هذا الهاجس؛ لكن، وكما أشرنا، عندنا في أصول التفسير “عمود ثابت”، أُشبِّهه بكتلة مغناطيس ضخمة تستطيع أن تجذب إليها قطعة الحديد المتغيرة الدائرة في فلكها.. فمتى تنحرف قطعة الحديد؟ تنحرف إذا خرجت عن المجال المغناطيسي.. إذن، متى تنحرف القراءة الجديدة؟ وما هي حدود المرونة المسموحة لها؟ إنها حدود اللسان العربي الذي يُشبه قطعة المغناطيس.. وهذه الحدود هي العمود الثابت الذي لا يتغير.. أما العمود المتغير فهو قواعد الزمان.. فإذا ابتعدنا عن المجال المغناطيسي، أي قواعد اللسان، انحرفنا.. وبسبب هذا الابتعاد عُرِف في تراثنا التفسير الشاذ، أو التفسير الباطني، أو غير المقبول. فأحد شروط التفسير ألا نستخرج شيئًا مخالفًا لما كان يُعرف من دلالات الألفاظ ساعة نزول القرآن الكريم.. وكمثال على هذا، فإن “الزنا” محرم في الإسلام بنصوص ثابتة قطعية الثبوت والدلالة، ومعناه اللغوي معروف وواضح.. قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (الأنعام: 32).. فإذا جاء أحدهم- كما في بعض التفسيرات الشيعية والباطنية- وفسره بأنه ليس إلقاء نطفة رجل في رحم من لا تحل، وإنما إلقاء العلم لمن لا يستحق؛ فإننا نحكم على هذه القراءة بالرفض والشذوذ ولا نقيم لها وزنًا؛ لأنها خالفت المعنى اللغوي المعروف من كلمة “الزنا” المرادة بالتحريم بنصوص ثابتة لا لبس فيها. أما إذا فهمنا بأن الآية السابقة تفيد أيضًا تحريمَ مشاهد التعري، أو تحريم الميوعة في الكلام، أو تحريم استعمال المرأة المتعرية في الإعلانات- وهذه حادثة جديد لم تكن معروفة ساعة تنزل القرآن- فإننا نعتبر هذه القراءات صحيحة، ومازالت تدور في “المجال المغناطيس”، أي في دائرة الدلالات اللغوية المعروفة للآية الكريمة؛ فبين هذه المشاهد والإعلانات، والزنا: جزء مشترك؛ هو التعري.. كما أن الميوعة في الكلام سبيل إلى الفاحشة. إذن، ما أهم الضوابط التي ينبغي الالتزام بها حتى نُبقي على أصالة النص القرآني ومعاصرته في آن واحد؛ أي بعيدًا عن تجميد النص أو تجاوزه؟ تتمثل أهم هذه الضوابط في ضابطين أساسيين، كما أشرنا، وهما مستمدان من تعريف القرآن الكريم تعريفًا موجزًا بأنه (كلام الله). فالضابط الأول يتعلق بكون القرآن (كلام)، من أول الصوت إلى النص.. وهذا الكلام عربي؛ فينبغي أن يُفهم في ضوء ما تمليه قواعد اللغة العربية، من حيث الدلالة والاشتقاق وغير ذلك. فمثلاً، الجملة الاسمية التي لا توجد بها قريبة زمنية، تكون منفتحة على الزمان؛ فإذا قال القرآن {اللَّهُ أَحَدٌ}، فهذا يعني أن الله أحد في الماضي والحاضر والمستقبل، ولا يجوز ادعاء تخصيص دلالة الآية بزمانٍ ما. أما الضباط الثاني فيتعلق بكون القرآن (كلام الله)، أي يُفهم في ضوء كونه وحيًا مُنزَّلاً من الله، وليس مجرد كونه (كلام).. وهذا ما تكفل ببيانه علوم القرآن؛ من الناسخ والمنسوخ، أسباب النزول، المكي والمدني، المحكم والمتشابه، المطلق والمقيد، وغير ذلك. ثم نضيف لهذين الضابطين ضابطًا ثالثًا، وهو مقاصد القرآن؛ المتمثلة في رحمة الناس، وهداية الناس، وتعاون الناس.. والقرآن بالأساس هو كتاب هداية لا علوم (Science)؛ وإن كانت فيه إشارات عن الجغرافيا والتاريخ والجيولوجيا وغير ذلك، لكن بهدف خدمة الأساس الذي أعلن عنه.. وينبغي أن نحترم اعترافات النص القرآني عن نفسه إذ يقول في مفتتحه: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2)، كما قال فيما أُمرنا أن ندعو به ونردده في صلواتنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6). فإذا دعوتُ إلى المحافظة على النسيج الوطني الاجتماعي بين المسلمين وغيرهم، وإلى أن يتضامن أصحاب الرسالات السماوية الذين يشتركون في تقرير فكرة الألوهية وفكرة الوحي وفكرة النبوة، ضد غيرهم ممن لا يؤمنون بذلك.. إذا دعوتُ إلى هذا انطلاقًا من قوله تعالى في سورة الروم {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: 1- 5)، فأنا مُحقٌّ في دعوتي؛ لأن الله سمَّى انتصار أصحاب وحي سماوي على عبدة النار: نَصْرًا له؛ أي حين انتصر الروم على الفرس.. ودعا المسلمين إلى الفرح بدائرة قريبة من دائرتهم الدينية؛ حيث انتصر من يشتركون معهم في عدة مبادئ على آخرين لا رابطة مشتركة تجمعهم مع المسلمين. فدعوتي هنا تتفق مع مقصد من مقاصد القرآن، وهو تعاون الهويات المتقاربة، ممن يؤمنون بالإله وبالوحي؛ فهم أقرب إلى بعضهم البعض ممن ينكر هذه المبادئ. أما من يزعم بأن هذه الآيات خاصة بمكة، وبالتالي غير صحيح ما يمكن أن يُستنبط منها من دلالات معاصرة.. فنرد عليه ادعاءه بأنه يقيد النص القرآني بلا دليل، ويخالف مقاصد القرآن. بقي لنا ضابط رابع، وهو عدم مخالفة إجماعات القرآن الكريم.. وهو ضابط مهم جدًّا.. فمثلاً، القرآن الكريم له مراد من تحقيق العدل؛ ومن ثم، فكل ممارسة تتجه إلى الظلم هي ممارسة حرام، وأيُّ تطويع للنص القرآني في هذا الاتجاه هو تطويع حرام؛ لأن القرآن الكريم دائمًا يمتدح العدل ويذم الظلم، حتى لو كان في سياق الفصل بين مسلم وغير مسلم، مثل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (النساء: 105)، الذي أنصف يهوديًّا من مسلم. من الملاحظ أن القراءات المعاصرة في تجديد الفكر والدعوة، حتى تلك التي يختلف معها البعض، تحاول أن تنطلق من القرآن الكريم، وأن تُوجِد لها مظلة من توجيهاته ومقاصده.. ما دلالة ذلك؟ لاشك أن هذا يدل على “مركزية” القرآن الكريم.. ونحن نجد أن “أصول الفقه”، كمجال علمي محدد، هو أول علم لفت إلى مركزية القرآن، بوصفه المرجعية الحاكمة.. بل قبل “أصول الفقه” نجد القرآن ذاته قد عبَّر عن نفسه تعبيرًا دقيقًا جدًّا ساعة وَصَفَ نفسه في إطار “مصادر المعرفة” بأنه (مُهيمِنًا عليه)، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة: 48). فمصادر المعرفة متنوعة جدًّا، تتمثل في الحس، الملاحظة، عمل العقل، الحَدْس، المعرفة القلبية، إضافة إلى الكتابات وعلى رأسها الكتب السماوية. والقرآن الكريم جعل نفسه مهيمنًا على كل مصادر المعرفة السابقة والمعاصرة واللاحقة؛ انطلاقًا من حقيقة ثابتة واضحة، وهي أن الله عز وجل الذي أنزل الكتاب العزيز هو العلَّام العليم العالم المحيط القيوم.. إلى آخر تلك الصفات التي تعني أنه سبحانه محيط بعلم السابق وبعلم الآن وبعلم الغد. فجاء الأصوليون وجعلوا القرآن الكريم في قمة المصادر المتفَق عليها، يليه السنة النبوية، يليهما الإجماع.. وذلك عند كل المذاهب الفقهية؛ ثم تختلف المذاهب بعد ذلك فيما يلي هذه المصادر الثلاثة. ثم حدث بعد ذلك توسيع لهذا النطاق الذي تحكمه المرجعية؛ بحيث لا يكون فقط في الإطار التشريعي المحدود المتعلق بالأحكام، وإنما انتقل إلى الفكر، وانتقل في وقت مبكر للغاية.. فنجد ابن رشد، في كتابه الشهير (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، يقول: “يجب علينا إن ألفينا [أي وجدنا] لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرًا في الموجودات، واعتبارًا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان؛ أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم: فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منهم، وسُررنا به، وشكرناهم عليه؛ وما كان منها غبر موافق للحق نبَّهْنا عليه، وحذَّرْنا منه، وعذرناهم”. فالقراءات المتفِقة مع القرآن الكريم والمختلفة معه تعي جيدًا فكرة “مركزيته”.. لكنني أستطيع أن أفرز- في إطار الفكر وفي إطار الحركة- بين من يستدعي القرآن الكريم مرجعيةً حاكمة لضبط النظر والحركة، ومَنْ يستدعيه مرجعيةً مراوغة لتمرير أفكار انحرافية.. وهذا الوعي يتحقق من خلال الضوابط الأربعة السابقة. ثمة قراءات كثيرة حاولت الاقتراب من النص القرآني بمنظار مختلف؛ مثل محمد أركون، محمد شحرور، محمد عابد الجابري، نصر حامد أبوزيد.. كيف ترون هذه القراءات، وماذا عما بينها من اتفاق وافتراق؟ في البداية، أنا ضد تكفير أي حركة اجتهادية.. دعنا نشتغل على المنجَز لا على الأفراد.. ويمكن القول بأن محاولات التجديد في التفسير حديثًا بدأت بمحاولات الإمام محمد عبده، فقد صنع تفسيرًا جديدًا، واستكمله من بعده تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا وإن كان تُوفي قبل أن يتمّه.. وكانت جهود محمد عبده منصبةً على ما يشغل الأمة في ذلك الوقت، وهو علاقة الإسلام بالعلم، وإزالة التناقض بينهما؛ فبدأ بتفسير بعض الآيات على ضوء العلم؛ مثل تفسير الحسد تفسيرًا علميًّا فيزيائيًّا، والطير الأبابيل بالجراثيم.. ووقف العلماء ضد ذلك على قاعدة الضوابط التي أوضحناها سابقًا؛ وهي أن قواعد اللسان العربي وبعض قواعد التنزيل لا تسمح بمثل هذه التفسيرات.. ورأينا هجومًا قاسيًا على الإمام محمد عبده بسبب ذلك، لكن دون تكفير. واستمر هذا النوع من النظر الجديد في القرآن الكريم حتى انتهى إلى اتجاهين أساسيين؛ الأول: يتمثل فيمن يدخل إلى القرآن الكريم بِنِيَّة سابقة وليس له تأهيل. وأشهر هذه النماذج د.مصطفى محمود رحمه الله في كتابه (القرآن.. محاولة لفهم عصري)، ووجد من العلماء من يرد عليه، مثل د.بنت الشاطئ رحمها الله. ود.مصطفى محمود رجل رجَّاع إلى الحق، ولهذا لم يُدرجه أحد ضمن الكتابات المخرِّبة للنشاط التفسيري. أما الاتجاه الثاني: فيتمثل في المذكورة وغيرهم.. وإذا بدأنا بنصر حامد أبو زيد فلن نجد له نشاطًا تفسيرًا، وإنما كانت له اجتهادات في إطار معرفته ببعض العلوم العربية، وتخصصه الأساسي البلاغة.. ولما طبّق ذلك في كتابه الشهير (مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن)، حدثت منه بعض الأخطاء؛ التي لم تكن تمثل مشكلة كبرى، لولا أنه مدَّ الحبل على آخره وبدأت هذه الاجتهادات والأخطاء تنال من ثوابت القرآن ضمن الرؤية الماركسية للقرآن، ليس كنشاط تفسيري له، وإنما باعتبار القرآن مرجعية. فالقرآن الكريم في تصور أبوزيد- وهو ابن بار للتفسير الماركسي للنصوص والتاريخ- كتابٌ يُتجاوَز، يُقرأ في إطار لحظة تاريخية واحدة. وهذا هو الفخ الذي يقع فيه من لم يفهم بشكل صحيح حقيقة الرسالة الخاتمة وانقطاع الوحي.. فيظن القرآن كتابًا تاريخيًّا، أو تاريخانيًّا كما يقول الماركسيون.. لكنه لو فهم أن الله تعالى جعل نظم القرآن الكريم بطريقة معجزة تجعله عابرًا للزمان حتى لو انقطع الوحي، لما وقع في أخطائه. وهذا ينطبق على محمد عابد الجابري.. لكنه أقل الأسماء المذكورة في منحنى “الانحراف”؛ وذلك من جانبين؛ الأول: أنه لم يقصد النيل من القرآن، وإنما هو يهتم بمراجعة طبيعة العقل العربي وعمل العقل العربي على مستويات البيان، والأخلاق، وسؤالات التراث.. وكتب تفسيرًا للقرآن في إطار هذه المراجعة، وحسب أسباب النزول، وهو مدخل مشروع في إعادة القراءة للقرآن.. لكن لأنه ليس من ذوي الاختصاص في قواعد اللسان (كتلة المغناطيس)، وإنما في الفلسفة؛ حدثت منه أخطاء، لكنها ليست أخطاءً قصدية. كما أن هذه الأخطاء- وهذا هو الجانب الثاني- ليست ضمن أعمال مؤسسة تهدف إلى إسقاط التصور الإسلامي اعتمادًا على القرآن! كما هو حال آخرين، مثل محمد أركون ومحمد شحرور؛ اللذين توافر عندهما نية والعمد والقصد، بمحددات وقرائن لا حصر لها؛ مثل التمويل، الإقامة في الغرب الفرنسي، وجود مؤسسات داعمة مثل (مؤمنون بلا حدود)، الإلحاح على هدم ما توارثته الأمة من نظام اللسان في النشاط التفسيري. فالأمر مختلف كلية مع أركون وشحرور، ولا يمكن أن ندرج أعمالهما ضمن الاجتهاد والمقبول.. لأنهما يريدان تطبيق مناهج نقدية غربية على القرآن، دون اعتبار أن هذه المناهج صيغت للتعامل مع (الكتاب المقدس)؛ الذي هو ذو طبيعة تاريخية ولغوية مغايرة تمامًا لطبيعة القرآن الكريم.. ولهذا، فإن الغربيين أنفسهم يقرون بحقيقتين أساسيتين: استحالة استعادة النص الأصلي للإنجيل؛ لأنه لا وجود للإنجيل الأصلي في العالم… إضافة إلى وجود أكثر من 36 ألف فرق بين نسخ الإنجيل في العالم!! وللتفصيل في ذلك يمكن الرجوع لكتاب سامي عامري (استعادة النص الأصلي للإنجيل في ضوء قواعد النقد الأدنى.. إشكاليات التاريخ والمنهج)، والذي يذكر فيه أن الغربيين أنفسهم يعترفون بذلك، على العكس من النصارى العرب الذين مازالوا يجادلون في تحريف الإنجيل! فقواعد التأويل التي يتبعها أركون وشحرور ظهرت في مناخ علمي يفيد بأن نص الإنجيل ليس هو النص الأصلي.. أما القرآن الكريم فهو من ساعة أنزل حتى يومنا هذا نصٌّ ثابت منزَّه عن التحريف، زيادةً أو نقصانًا.. فكيف يجوز أن نستخدم مناهج واحدة في التعامل مع القرآن والإنجيل؟! ونضيف إلى هذا الخلل في التسوية بين القرآن الكريم وغيره، الغرضَ أو الهوى أو التوظيف أو القصد إلى الإضرار.. وهو الأمر الذي لا يظهر بالوضوح نفسه عند آخرين كما عند أركون! هناك حالة حفاوة كبيرة، ودعم لوجستي غير محدود لنموذج أركون في اغتيال النص القرآني وهدم النموذج المعرفي في التعامل معه. ما الذي حرصتم على إيصاله من خلال كتابكم (كأن القرآن يتنزل من جديد)؟ حرصت في هذا الكتاب على حزمة مقاصد: أولاً: أنا مؤمن بأن القرآن الكريم هو المرجع الحاكم للأمة، ويستطيع أن ينتشلها من أزماتها ومشكلاتها. وهذا الإيمان النظري ينبغي أن يواكبه إيمان عملي بالتشغيل. فكان هذا الكتاب الذي به نظرات متفرقة تنبثق من عدة آيات بحثًا عن تدبر وتأمل جديد. ثانيًا: أنا مؤمن بقيمة تخصصي العلمي، اللسانيات، والذي أعتبره “العمود الثابت” للنظر في الكتاب العزيز.. وقد أردت إصدار هذا الكتاب على خلفية دارس متخصص.. والمسلمون في عهودهم السابقة لم يكونوا يكتبون في النظرية اللغوية بمعزل عن التطبيق، بل كان اللغويون لهم نشاط تفسيري.. فابن فارس وهو واحد من أعظم من أسسوا نظرية فقه اللغة في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها)، له نشاط تفسيري، وقد جُمع تفسيره مؤخرًا.. وابن جني، مشغِّل قواعد النظرية اللغوية على شروح المتنبي، وعلى شروح أرجوزة أبي نواس. ثالثًا: يبقى العالِم المسلم نموذجًا مختلفًا لشخصية العالم، في أنه أقرب للموسوعية.. أي يمزج بين المجال الشرعي واللغوي والتجريبي.. وهذا نموذج مستمَد من طبيعة القرآن الكريم؛ الذي هو كتاب شريعة، ويدعوك أن تفهم الشريعة بالدليل وبالعلوم العربية، كما يطلب منك تطبيق ما فهمته وتعلمته.. وهذا تجلَّى في كتابي، الذي حاولت التعبير به عن توظيف تخصصي اللغوي وتشغيله في هدايات القرآن، قاصِدًا التجريب والتطبيق.. وأنا بصدد إصدار طبعة ثانية له بعد إضافة ما يقرب من ثلث حجمه الأصلي، مع تنقيح وتعديل.. وقد أردتُها أن تكون طبعةً ثانية، لا جزءًا ثانيًا؛ حتى تكون أقرب لفكرة “إعادة القراءة” له.. هذه الإعادة التي نطالب بها على نحو أوسع فيما يتصل بالقرآن الكريم.
التفاصيلنتساءل أحياناً لماذا يتغلب الأشرار على الأخيار؟! لماذا لا تكون الشوكة للحق وأتباعه في الوقت الذي يعربد فيه الباطل بأنذاله؟! لماذا لا تُنصر دعوة المقهورين؟! لماذا لا تُكف أيادِ الباطشين؟! كيف نعبر؟! ما النجاة؟! أين الخلاص؟! ومتى؟! هذه الأسئلة وما يشابهها تؤرق أيامنا وتحير ألبابنا وتعصف بأذهاننا! وما يجعل هذه التساؤلات ترتقي إلى مستوى الإشكالات، كونُ الأمة الإسلامية هي أمةُ القرآن، والقرآن تضمن جملةً من المبادئ والأحكامِ التي تُغطِّي جوانبَ الحياة الرئيسيةِ وتستوعب قضايا الإنسان الأساسية، وتطرح أمام الإنسانيةِ مناهج التدبر والتأمل والعمل والتفعيل. فكيف بأمة لها كتابٌ بهذا الحجم من الأهمية والقدر أن تكون على هذا الوضعِ من سوء الحال والمآل، ما لم يكن ثمة خللٌ واضطرابٌ قد أصاب علاقتها بكتاب ربها وسنة نبيها فهماً وتنزيلاً؟ فإلى أي حد يمكن للوعي بالفقه السنني وتعقلِ العلاقة الترابطية بين السنن الشرعية والسنن الكونية أن يعيد للأمة الإسلاميةِ دورَها الريادي ويدفعَ بها نحو استئناف الفعل الحضاري؟ للإجابة عن هذا التساؤل الرئيس وما يتناسل عنه من أسئلة فرعية، ولتنوير القراء والباحثين والمتابعين حول هذا الموضوع وبيان مداركه وآفاقه، استضاف موقع منار الإسلام من خلال برنامجه الشهري “ضيف المنار” والذي يبث مباشرة عبر صفحة الموقع بالفايسبوك، كل من الدكتورين خميس رمضان من مصر الشقيقة، والدكتور رشيد كهوس من المغرب الحبيب، وذلك لما قدماه من جهد معتبر وواعد، بحثا وتنقيبا وجمعا وتنظيرا، وفيما يلي نص الحوار مع الدكتور خميس رمضان، وسنعود لاحقا لنشر نص الحوار مع الدكتور رشيد كهوس. الدكتور خميس رمضان من مواليد سنة 1971م في بني سويف- صعيد مصر، أستاذ مشارك في التفسير وعلوم القرآن في كلية الشريعة بجامعة قطر، من أهل الله وخاصته فهو الحافظ للقرآن الكريم والمجاز بالقراءات السبع المتواترة، المجاز في الكتب الستة للسنة النبوية المطهرة، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الحائز على درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن بتقدير مع مرتبة الشرف الأولى، والذي عمل وحاضر في عدد من الجامعات في مصر والسعودية وقطر ولبنان وتركيا، وصاحب الاهتمام البحثي والدعوي بالسنن الربانية؛ تأصيلاً وتطبيقًا.. صدر له عدد من الدراسات في التمكين وفي التفسير الموضوعي وقواعد فهم القرآن نذكر منها: “موازنة بين منهجَيْ مدرسة المنار ومدرسة الأُمناء في تفسير وعلوم القرآن”، “مفهوم السنن الربانية”، “فهم القرآن بين القواعد الضابطة والمزالق المهلكة”، “الحرية وأثرها في الشهود الحضاري للأمة المسلمة في المنظور القرآني”، “محاور المشروع الفكري لدى الشيخ محمد الغزالي” ولديه مشروع علمي “نحو تفسير سنني للقرآن الكريم” صدر منه ثلاثون دراسة، فأهلا وسهلا ومرحبا بالدكتور رمضان خميس زكي عبد التواب. نظرا للظرفية التي تمر بها أمتنا الإسلامية أولا، ولأهمية وراهنية الموضوع المختار السنن الإلهية علم قرآني وفقه حضاري، واغتناما للوقت وحتى نستفيد من ضيفين الكريمين سندلف إلى صلب الموضوع مباشرة، وسيكون الوقوف على البعد الإنساني لكل ضيف متضمنا لا مستقلا، وسنستعيض عن فقرة الشهادات بملتمس من كل ضيف أن يشهد للآخر، فهل من تعقيب أولي للدكتور خميس، وماذا يمكن أن يقول لنا عن الدكتور رشيد كهوس؟ جواب الدكتور خميس رمضان : أهلا وسهلا ومرحبا بكم جميعا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم حمدا لله وحده وصلاة وسلاما على من لا نبي بعده، محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أما بعد، فشكر الله لكم هذه الدعوة الكريمة والاستضافة الكريمة على مائدة قرآنية كريمة ونبوية كريمة، وفي هذا الظرف الذي تعيشه أمتنا الإسلامية والعربية وعلى وجه الخصوص الأقصى والقدس وما حولهما. والحقيقة حديثي عن فضيلة الدكتور رشيد حديث مجروح وشهادة مجروحة، فهو باحث شاب مجتهد خدوم، عالم باحث حصيف، يسبق بعلمه وفضله وعطائه سنه، وكنت أتواصل مع أخي الدكتور رشيد قبل أن أرى صورته وأن أتعرف عليه، فكنت أرسم صورة شيخ كبير، فلما رأيته حمدت الله سبحانه وتعالى على أن جعل في أمتنا هذه الرموز وهذه الأعلام. الدكتور رشيد لا يحتاج إلى شهادة من مثلي، الحقيقة، تميزه العلمي وتقدمه وأثره وضربه في علم السنن بصفة خاصة ضرب واسع الذيول طويل الأكمام كما يقولون. وعندما أكلف طلابي بالبحث في الدراسات السننية تكون ثلاثة أو أربعة من المراجع التي يحصلون عليها من إنتاج أخي الدكتور رشيد. فأنا أحمد الله عز وجل على أن جعل في أمتنا مثل الدكتور رشيد، وأدعو له بالبركة في الوقت والعلم والقبول والإخلاص، وأن يجعله الله عزو جل ربانيا وعالما مفيدا ينتج ويثمر ويطيل عمره ويحسن عمله ويكثر إنتاجه حتى ننتفع منه. وأنا شخصيا من الذين يقرؤون له وينتفعون به ويتعلمون من كتاباته ومن درسه، والله عز وجل يعيننا ويعينه. هذا سؤال مشترك يستوجب الإجمال، فالتفاصيل لنا معها عودة، هل لكما أن تبينوا لنا كيف تشكلا لديكما الاهتمام بهذا الموضوع؟ وعن الأشخاص الذين أثروا وأثروا مساركما العلمي ومسيرتكما الإيمانية سواء أكانوا ماديين أو معنويين، قدامى أو معاصرين؟ جواب الدكتور خميس رمضان: بسم الله الرحمن الرحيم، لعل ما ذكره فضيلة الدكتور رشيد هو شهادة المحب، وأنا أقول كلامي عن الدكتور رشيد كلام حقائق، فها هو تعرف على السنن في مرحلة البكالوريوس ومثلي تعرف على السنن في مرحلة الماجستير، وهذا هو السبق الطبيعي الذي يؤكد ما قلته، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم عليه هذه النعمة وأن يكثر منها. الحقيقة، تعرفت على موضوع السنن في مرحلة الماجستير، رسالتي في الماجستير كانت عن الشيخ محمد الغزالي وجهوده في التفسير وعلوم القرآن. ووجدت أن الشيخ محمد الغزالي يكثر من الحديث عن السنن ويربط بينها وبين واقع الأمة المعيش والتردي الذي تحياه الأمة على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعات، وعلى مستوى الشعوب، وعلى مستويات ومحاور متعددة. فلفت نظري هذا الأمر، ومن طبيعتي أنه إذا لفت نظري أمر في دراسة أو بحث أدونه ثم أتابعه فيما بعد حتى ينضج وينمو. وزاد الأمر وضوحا عندما سجلت رسالة الدكتوراه في مدرسة المنار ومدرسة الأمناء. وكما تفضل أخي الدكتور رشيد، مدرسة المنار من أعلامها الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضى. الشيخ رشيد رضى رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، أقول لا تكاد تجد صفحة من صفحات تفسير المنار إلا وفيها حديث قليل أو كثير عن السنن وأقول إنها موسوعة، هذا التفسير موسوعة سننية ومازالت بكرا لم تخدم بالصورة التي تستحقها وكما ينبغي أن يكتب فيه، حتى أنه في الفهرس الموضوعي لتفسير المنار تجد صفحات متعددة تتناول قضية السنن بصورة كبيرة. وكان أول دراسة كتبتها عن السنن: “سنة الله في التمكين”، معظم الدراسات والبحوث التي أكتبها هي عبارة عن أفكار نحتاجها في حياتنا، لذلك أخدمها وأوصلها من الناحية العلمية. فلما كتبت “سنة الله في التمكين”، كتبت الحديث عن السنن في أربعين صفحة تقريبا، و من عادتي أنني إذا كتبت شيئا أعطيه لبعض الزملاء و الفضلاء و الشيوخ لينظروا فيه قبل أن أطرحه للطباعة أو قبل أن أدفعه للتحكيم، فدفعته إلى صديق عزيز و زميل كريم و هو الأستاذ الدكتور أحمد عبد الحليم زميلي في الأزهر في القاهرة، والدكتور رمضان عبد الباسط، والدكتور حبيب الله، و نحن كنا زمانا في القاهرة نسكن بجوار بعضنا و كل واحد عنده سيارة بسيطة لكننا نؤثر أن نذهب سويا و نعود سويا في سيارة واحدة فنتدارس و نتشارك في الحوار، فقالوا لي ثلاثتهم أن البحث يجب أن يكون أقل من هذ، لماذا لا تجعل الحديث عن السنن بحثا مستقلا و الحديث عن التمكين بحثا مستقلا؟ فقلت والله كأن هذا مستنطق أنطقه الله، فبدأت أجمع عن السنن بتوسع، المفهوم والخصائص والآثار، فكانت أول دراسة لي عن “مفهوم السنن وموقف المسلمين منها بين الوعي والسعي”، ثم كلما زدت في القراءة كلما تطورت الفكرة ونضجت إلى حد ما، و مازلت أقول إن هذا المجال مجال خصيب فتوفقت فيه إلى حد ما وأنتجت هذا الإنتاج المتواضع، وهي فرصة أن أدعو إخواني الباحثين وأخواتي الباحثات أن ينعطفوا إلى هذا الميدان الذي تحتاجه الأمة والتي هي عطشى إليه وفي أمس الحاجة إليه. الدكتور خميس: نود أن نتعرف على مفهوم “السنن الإلهية”، خاصة من زاوية القرآن الكريم الذي أشار صراحةً وضمنًا لهذا المفهوم؟ جواب الدكتور خميس رمضان: الحقيقة، أولى بالحديث عن هذا أخي الفاضل فضيلة الدكتور رشيد، لكنكم أبيتم إلا الكرم وإلا حسن الاستضافة في كل شيء، بداية من الإعلان والصورة ومرورا بالترتيب، مع أن الترتيب الأصلي أن يتحدث الدكتور رشيد ثم أعقب إذا كان لدي أصلا تعقيب. السنن باختصار هي القوانين الضابطة التي تحكم سلوك الإنسان على مستوى العمران أو الاجتماع أو المستوى الإنساني، على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي. فهي القوانين الضابطة التي بثها الله سبحانه وتعالى لتحكم مسيرة الإنسان في الحياة والتي رتب الله عز وجل عليها مسألة الجزاء والعقوبة بصورة مباشرة، حتى إننا نرى ترابط السنن في الآية القرآنية بصورة شرطية كأنها تتحدث عن معادلة رياضية أو تركيبة كيميائية، أو كما تقول: بما أن … فإذن، كذلك الصور التي ترد عليها السنن الإلهية. وكثير من الباحثين يسميها السنن الإلهية، ولكني آثرت أن أسميها السنن الربانية وذلك لأني لمحت فيها أن قضية السنن ليست مجرد قوانين سائبة إنما وراءها آثار تربوية يريدها الله سبحانه وتعالى من ناحية العفوية والجزاء، من ناحية الانتصار والانكسار، من ناحية المنع والمنح، من ناحية الابتلاء والعطاء والشدة والرخاء ونحو ذلك. هذه السنن هي قوانين ثابتة تجري على الإنسان، تجري في العمران، تجري في الاجتماع. والحقيقة، من الأشياء التي أنبه إليها نفسي وإخواني وأخواتي أن كثيرا من الناس يخلط بين مناخات السنن، فيطبق السنن الخاصة بالأفراد على الدول أو الجماعات، أو يطبق السنن الخاصة بالشعوب على الأمم، وهنا يحدث خلط كبير. فمفهوم السنن مفهوم ضابط ومفهوم مطرد، ومفهوم له ثبات واستقرار وأقام الله سبحانه وتعالى عليه الحياة، النجاح والفشل، الانتصار والانكسار، هلاك الأمم وبقاء الأمم، إلى غير ذلك من السنن التي لها مسارات متعددة وبحر واسع يحتاج إلى الاستقصاء والإخراج بالمناقيش كما يقولون. الدكتور خميس: إذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية قد أوليا مفهوم السنن الإلهية اهتمامًا كبيرًا.. فلماذا لم يترسخ هذا المفهوم بالقدر اللازم في السلوك الإسلامي، تفكيرًا وممارسة؟ أحسن الله إليك وهذا سؤال إجرائي وسؤال عملي. الحقيقة، عناية القرآن الكريم بسنن الله سبحانه وتعالى عناية لافتة للنظر. وردت كلمة السنن في القرآن الكريم ودارت تقريبا ست عشرة مرة، في تسع سور، في إحدى عشرة آية من آيات القرآن. وأيضا تناول القرآن الكريم قضية السنن بصورة عملية إجرائية في الربط بينها وبين سنن الله تعالى في الأكوان. أكرر كثيرا ما يذكره الطاهر بن عاشور رحمه الله و رضي عنه و أرضاه، عندما يربط بين قوله سبحانه و تعالى: {ذلك و من عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصره الله}، ثم تأتي الآية التالية: {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل}، و يعلق الطاهر رحمه الله بأن السر في هذا الترابط أنه لا توجد سنة من سنن الله في الإنسان إلا و يعقبها سنة من سنن الله في الأكوان، حتى إنني تتبعت هذه الفكرة بصورة إحصائية و قدمت فيها دراسة لم تنته بعد، و هي قضية التزاوج و الترابط بين سنن الله في الإنسان و سنن الله في الأكوان، و كذلك القصص القرآني، لا تكاد تخلو قصة من قصص القرآن الكريم و لا مثل من أمثال القرآن الكريم إلا و فيه حديث عن سنن الله سبحانه و تعالى في الأنفس و في الآفاق، إن صراحة و إن ضمنا. لكن لماذا غاب هذا المفهوم؟ حقيقة، هذا المفهوم ما غاب، هذا المفهوم مارسه الجيل القرآني الفريد بتعبير صاحب الظلال رحمه الله، مارسه ممارسة حقيقية وإن لم يدونه. وأجاب عن هذا السؤال الشيخ رشيد رضى رحمه الله فقال: إن الصحابة لم يدونوا السنن مثلما أنهم لم يدونوا كل العلوم التي نضجت فيما بعد. فهم لم يدونوا الفقه، لم يدونوا أصول الفقه، لم يدونوا الحديث، لكنهم مارسوا هذه السنن بصورة حقيقية. واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يغرس هذا المعنى كما تفضل أخي فضيلة الأستاذ الدكتور رشيد، استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يغرس هذا المعنى في نفوس الصحابة. فحديث السفينة مثلا: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها”، مثال حي على غرس النبي صلى الله عليه وسلم لقضية السنن. حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا). هذا الربط بين الكائنات وبين الكون المنظور وبين سنن الله في المسطور كان حاضرا في أذهان النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حاضرا كذلك في الأجيال التالية، لكن من ناحية التأسيس والتدوين تأخر هذا العلم إلى سنوات قريبة ماضية. ولعل سببا من هذه الأسباب صراحة هذا الاستبداد السياسي الذي تعيشه الأمة منذ عشرات السنين، فلا تكتب دراسات إلا الدراسات التي توطئ ظهور الأمة للاستعباد والاستبداد، أما الحديث عن فقه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أما الحديث عن العلاقات وقيام الحضارات واندثار الحضارات، أما الحديث عن سنن الله سبحانه وتعالى المنداحة في الأنفس والآفاق، تأخر الحديث عنها إلى حد كبير حتى أتت هذه الأعصار التي نعيشها منذ بضع سنوات مضت. وطبعا هذا لا ينفي أن الكتابات موجودة فيها، لكنها كانت مبثورة، وجدنا مثلا عند الشافعي، عند الإمام الغزالي أبو حامد، وجدنا عند الشاطبي، وجدنا عند عدد كثير. ولعلي فضيلة الأستاذ عثمان أقول لك وللمتابعين الكرام والمتابعات الكريمات، أقول لك عن يقين: لم أجد شخصا تناول الإصلاح لهذه الأمة إلا ولمس أمرين ظاهرين: لمس الجانب السنني في حياة الشعوب ولمس الجانب اللغوي في حياة طلاب العلم وإصلاح اللغات. وكنت أتعجب من هذا، كنت أقول: لماذا يتوفر الشيخ رشيد رضى والشيخ محمد عبده على دلائل الإعجاز وأسراره.. ما العلاقة؟ اتضح عندي بعد ذلك وفهمت بعد ذلك أن المدخل اللغوي مدخل مهم لفهم السنن، بل مدخل مهم لفهم معظم العلوم التي نعيشها. فالكتابات موجودة من قديم لكنها كتابات متناثرة، لكنها نضجت وبدأت تأخذ طريقها إلى الاستواء في هذه الأعصار التي نعيشها. الدكتور خميس: كيف نفعِّل الاهتمام بالسنن الإلهية، ونعيد إليها الاعتبار في التفكير الإسلامي؟ في الحقيقة، أخي عثمان، هذه الأمة كما يقول شيخنا العلامة الشيخ الغزالي رحمه الله: “أمة تمرض لكنها لا تموت، وكيف تموت وهي تستمد قوتها من الحق والحق حي لا يموت”. فمهما عرض لها من عوامل الفساد والإفساد والاستبداد والاستعباد إلا أن عوامل الصحة والسلامة مازالت سارية فيها كما يقول مجدد العصر الأستاذ حسن البنا رحمه الله. مازالت هذه الأمة قادرة على النهوض مرة أخرى، والأمة كلها تمر بمراحل الصعود والهبوط، وهذه سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، ليس بين الله وبين الإنسان نسب، ولكن وضع الله سبحانه وتعالى هذه السنن حتى يستفيد منها الناس ويتعلم منها الناس وتستفيد منها الأمم أيضا على حد سواء. فهذه الأمة قادرة على إعادة سيرورتها مرة أخرى، وكما يقول العربي قديما: “و أي حسام لم تصبه كلالة *** و أي جواد لم تخنه الحوافر” لكن الإشكال ليس في أننا انكسرنا أو انحسرنا ولكن الإشكال في أن تغيب عنا عوامل الصحة والسلامة مرة أخرى، فهذه الأمة قادرة على أن تعود مرة أخرى وأن تنهض مرة أخرى، ومادام فيها هؤلاء العلماء وطلاب العلم الحريصون على نهضة الأمة والحريصون على ربط العلم بالعمل، فإن الأمة إلى خير وفي خير إن شاء الله. نستطيع أن نفعل هذا من خلال البرامج العامة، نستطيع أن نفعل هذا من خلال إدراج السنن الربانية في مقررات أبنائنا الدراسية. وهنا أذكر محمدة لكلية الشريعة في جامعة قطر، الحقيقة أنها من أوائل الجامعات التي جعلت مقررا خاصا بعلم السنن، مقررا مستقلا وبثت هذه الروح في كل المقررات خاصة في الجوانب المتشابكة بين العلوم بعضها البعض. ففي السيرة كما تفضل الدكتور رشيد مشكورا، في الحديث، في التاريخ، في العقائد، في التفسير بلا شك، في ميادين متعددة، نستطيع أن نفعل الجانب السنني فيخرج طالب العلم عنده إدراك بالعلاقة بين المقدمات والنتائج، عنده إدراك بأن نصرا لا يكون إلا إذا أخذنا بأسباب النصر، وأن نجاحا لا يكون إلا إذا أخذنا بأسباب النجاح. فيستطيع الإنسان على المستوى الفردي أن يغرس في أولاده هذه المعاني ويربيهم على هذه المفاهيم. ويستطيع أصحاب القرار في وزارات التربية والتعليم وفي الجامعات في التعليم العالي أن يدخلوا هذا الوعي السنني الذي هو يخص الأمة كلها، لا يخص شريحة معينة من الباحثين والدارسين، ولا يخص جيلا، الشباب أو الفتيان، وإنما يخص الأمة كلها لأن الأمة عندما تدرك موطن الداء وتعرف أين الدواء تستطيع أن تتخلص مما هي فيه. يعني المظلوم لا يظل مظلوما أبد الدهر، والضعيف لا يظل ضعيفا أبدا الآبدين ولكن هذه سنن وتداول كما أراد الله سبحانه وتعالى. سؤالي عن بيان علاقة السنن الإلهية بتفسير القرآن الكريم، بمعنى آخر إلى أي حد يمكن اعتبار فقه السنن الإلهية مدخلا للتفاعل مع كتاب الله تفسيرا وتدبرا وشرطا من شروط صناعة المفسر العامل على وصل المسلمين بكتاب الله إليهم هدى ونورا وشفاء؟ أحسن الله إليكم جميعا، واختصارا أقول: العلم بالسنن شرط من شروط التعرض للتفسير خاصة في زماننا وواقعنا المعيش. وقبل الحديث عن علاقة علم السنن بعلم التفسير أقول تتمة لما تفضل به أخي فضيلة الدكتور رشيد مشكورا، إن علم السنن له تماس بكل العلوم الشرعية والعربية بلا استثناء، وهذه نماذج أستطيع أن أطرحها سريعا وأستطيع أن ألفت نظر الباحثين والدارسين إليها بصورة حتى يأخذ كل واحد في تخصصه الزاوية السننية فيشيع الفكر السنني بصورة مناسبة. في علم العقيدة يمكن أن يدرس علم السنن في الوعد والوعيد والعدل الإلهي وفعل العباد. في علم أصول الفقه يدرس في قواعد التكليف ومقاصد الشريعة والعلة والشرط والسببية. في علم التفسير في آيات السنن ومفردات السنن على مستوى السورة، على مستوى …….، على مستوى القرآن كليا. في علم الحديث، أحاديث السنن، أحاديث الابتلاء، أحاديث النصر، أحاديث الإهلال. في علم التصوف وعلم السلوك والتزكية، في زاوية طبائع النفوس وتغييرها وتربيتها. في علم السياسة الشرعية يمكن أن يدرس من زاوية قواعد التدبير الاجتماعي والتدافع بين الحق والباطل والعدل والظلم والمهالك. في علم التاريخ يمكن أن يدرس من زاوية أسباب الانتصار والانكسار والنهضة والسقوط … وأنا أحيل المتابعين الكرام إلى بحث ماتع لأخي الدكتور رشيد نشره في كلية الشريعة، جامعة قطر، لا أذكر عنوان البحث الآن، الدكتور رشيد يذكرنا بعنوانه، البحث قرأته من فترة طويلة، وفي نهايته ذكر مشكورا العلاقات بين علم السنن وبين باقي العلوم، وإن كانت إشارات سريعة لكن هذه الإشارات يلتقطها الباحث ويؤسس عليها، وهذه هي البحوث المنتجة المثمرة التي تفتح سؤالا أو تثير سؤال من يأتي بعدك. موضوع السنن وعلاقتها بالقرآن والتفسير، هذا هو الميدان الأساسي لها، وهذا هو المحضن البكر لهذا العلم الكبير، وهو في نظري لا بد أن يعد شرطا من شروط المفسر حتى يقدم للناس فكرة عملية إجرائية مضبوطة بين النتائج والمقدمات. الدكتور خميس: كيف بدأ الاهتمام بالسنن الإلهية في العصر الحديث؟ وما أبرز الكتابات في ذلك؟ وهل فعلا كان للمغاربة سابقة وتميزا في هذا الباب على المشارقة؟ هذا سؤال محرج يا شيخ عثمان، هذا سؤال يوقع المشارقة في المغاربة، و أنا متهم بحبي للمغاربة و ملوم، لكني و الله أقول ما أعتقد، و أعتقد ما أقول. أنا أمزح فقط، الحقيقة، علم السنن في الفترة الأخيرة بدأت الكتابات فيه بصورة واضحة في تفسير الشيخ رشيد رضى ” تفسير المنار”، كما قلت حتى أنه لا تكاد تخلو صفحة من صفحات المنار من الحديث أو الإشارة إلى سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في الأنفس والآفاق. والمدرسة العقلية، مدرسة المنار بأسرها هي مدرسة سننية من وجهة نظري. جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضى، عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، الشيخ الغزالي، الشيخ القرضاوي، كل هؤلاء رواد المدرسة الإصلاحية كما أسميها أو المدرسة العقلية كما يرغب بعض الفضلاء أن يسموها كذلك. وبدأت الكتابات لإخوتنا المغاربة، وحقيقة هم متميزون من ناحية التجميع والتأصيل والتأطير بصورة لافتة للنظر، وأنا أقول هذا من فترة طويلة، أقول: الإخوة المغاربة، طبعا ليس هناك في ذهننا أصلا تفريق، وأنا أقول في كل مكان: ولست أدري سوى الإسلام لي وطنا *** الشام فيه ووادي النيل سيان وكلما ذكر اسم الله في بلد *** عددت أرجاءه من لب أوطاني. وكما يقول الآخر: يا أخي في الهند أو في المغرب *** أنا منك أنت مني أنت بي لا تسل عن عنصري عن نسبي *** إنه الإسلام أمي وأبي. أفرح للكلمة التي تأتي من أي مكان وأنتفع بها من أي مكان. إخواننا المغاربة متقدمون ومتميزون في جانب السنن، في جانب المقاصد، في جانب المصطلح، وإن سبقهم المشارقة في الكتابة إلا أن إخواننا وأساتذتنا المغاربة، أقصد المغرب العربي الكبير كله سبقوا من ناحية الإكثار في الإنتاج، ووضع النقاط الرئيسة التي يحتاجها القارئ بصورة مركزة. فلو قمنا بعمل جرد إحصائي وقارنا بين الإحصاءات لوجدنا أنهم خدموا هذا الجانب. فهناك مختبرات، يعني مختبرات السنن كالمختبر الذي يقوم عليه فضيلة الدكتور رشيد، مختبرات المصطلح كالمختبر الذي يقوم عليه فضيلة الدكتور الشاهد البوشيخي، ومختبرات لزوايا دقيقة، وهذا هو التطور الطبيعي للعمل الأكاديمي. وأنا أهيب بإخواني الباحثين والباحثات أن يلتقطوا أطراف الخيط من كل مكان ومن أي مكان، فنحن أمة واحدة، ومازال الخير في هذه الأمة كثيرا، ومازال كبيرا ووفيرا بعون الله سبحانه وتعالى، وكم ترك الأول للآخر، أنا قلت إن أخي الدكتور رشيد كتب إشارات سريعة، من يقرأ هذه الإشارات يمكن أن يستخرج منها زوايا في تخصصه هو، ليس بالضرورة أن يكون مختصا في الدراسات القرآنية، يعني الزوايا التي أشرت إليها، كل صاحب تخصص يمكن أن يربط بينها وبين تخصصه بهذه الصورة فينتج ويثمر دراسة جديدة وعملا جديدا. أحسن الله إليكم. أنتجتم العديد من الكتب والدراسات حول الموضوع وأشرفتم على العديد من الأبحاث والأطروحات فيه، فما هي الآفاق التي يمكن للباحثين استشرافها من خلال ما توصلتم إليه، وكيف تقيمون البحث في هذا الحقل المعرفي؟ ومن خلال تجربتكم الطويلة في الموضوع ما هي مقترحاتكم لاستنبات الفكر السنني لدى الأجيال المتعاقبة؟ أحسن الله إليكم وتقبل أعمالكم. الحقيقة، مجال السنن مجال خصيب ومجال مازال بكرا، ومازال قادرا على العطاء والإنتاج بصورة كبيرة. وكما ذكرت، على مستوى الدراسات القرآنية والتفسيرية، مازالت هناك مشاريع تستحق أن تنتج وأن تنجز، وعلى مستوى باقي العلوم هناك مجالات يمكن أن يكتب فيها. والحقيقة، عدد من الباحثين والباحثات ألفت نظرهم إلى هذا الميدان، ينعطفوا إليه انعطافا لأنه يجمع بين الجانب التأصيلي والجانب الذي تحتاجه الأمة في هذه الفترة سواء على مستوى دراسة سنة من السنن أو دراسة السنة في ضوء سورة من سور القرآن الكريم أو دراسة الترابط الموجود على مستوى المقدمات والنتائج، فهو مجال خصب سواء في الدراسات التفسيرية أو القرآنية أو في باقي العلوم، وهو مجال طبعا لبه وأصله التفسير الموضوعي. هل من كلمة ختامية جامعة حول موضوع السنن الربانية كما تحب أن تسميها؟ وعن السنن الربانية في الصراع مع الصهاينة؟ أحسن الله إليكم وتقبل أعمالنا وأعمالكم. الحقيقة، هذه الأسئلة إن دلت على شيء فإنما تدل على هذا الوعي وهذا الرشد في التفكير، وأنا شاكر لهذه التدخلات العميقة والكريمة والتي أنا فخور بها وسعيد بها. إن دل هذا على شيء فإنما يدل على ما أميل إليه وأذكره كثيرا من سبق وعمق إخواننا المغاربة في هذا الميدان على مستويات متعددة. تحدث أخي فضيلة الدكتور رشيد مشكورا عن سنة الله سبحانه وتعالى في التغيير وعن الآيات التي ورد فيها التغيير: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، وفي قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، ولعل التعبير بـ”ما” التي تدل على الإبهام ليسبح و يسرح العقل المسلم في هذا المطلوب تغييره حيث شاء. أما من ناحية كيفية التماس بين السنن وباقي العلوم فذكرنا في ثنايا الحديث بعض مواطن التماس وفيها تفصيل يمكن أن يدرس في كل علم على حدة، ويمكن أن نراجع كتاب فضيلة الدكتور رشيد مشكورا حتى نكسب الوقت. لكن في كل علم من العلوم له علاقة بعلم السنن بصورة أو بأخرى. وأقول إن علم السنن هو أحد العلوم البانية، وهو جزء من التفسير الموضوعي بالأساس، لكننا كما تعلمنا من شيوخنا أن هذه الأمة أمة ولادة، حضارة المسلمين حضارة ولادة للعلوم، ينشأ العلم شيئا ثم يتمدد ويتسع فيتولد منه علم آخر وآخر وهكذا. أما عن السؤال: ما الحلول المطروحة لتدبير هذا الصراع القائم بين اليهود والمسلمين؟ حقيقة، هذا السؤال تجيب عنه الأمة، لا يجيب عنه باحث ولا دكتور ولا مختص في الدراسات القرآنية. هذه الأسباب ينبغي أن تكون من الفرد على الأمة ومن الأمة إلى الفرد، العود الرشيد إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وإلى منهاج الله عز وجل كلا وتفصيلا هو إجابة هذا السؤال: سألت نفسي والأحداث محدقة *** وعاصف الدهر ترمينا شظاياه ماذا بنا إخوتي والريح معولة *** والكأس ملأى بما قد ليس نهواه كنا نرى الكون من آفاق شرفتنا *** ونحن بالعز والمجد نرقاه وعدت والنفس بالآلام مثقلة *** أسائل الأمس ماذا لو أعدناه أجابني ووريث العز يرمقه *** عودوا إلى الله يرضى عنكم الله. فالعود الرشيد إلى الله سبحانه وتعالى في كل المجالات، نحن أحيانا نلقي التبعة على جهات معينة، نحن نريد أن يبدأ التغيير من داخل كل نفس تحرص على التغيير، في البيت، مع الزوجة، مع الأولاد، في التفكير، في التربية، في التزكية، في التعليم، في إنشاء جيل حق يحمل رسالة الله عز وجل، لا نخرج للناس نماذج أصحاب عقول متضخمة وضمائر دابرة. نحن نريد أن نعلم الناس الجمع بين الوعي والسعي، بين الإدراك والحراك، بين العلم والعمل، بين التأصيل والتنزيل، بين الفهم والتسخير، بين أن يكون عالما وباحثا وبين أن يكون عاملا لهذا الدين بحق حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. الجزء الأخير الذي أختم به، معرفة السنن الكونية في غرس اليقين. فالله سبحانه وتعالى مزج بين سنن الله في الأنفس وسنن الله في الأكوان، فقال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}، ولشيخنا الشيخ الغزالي كلمة بديعة أختم بها كسبا لوقتكم النفيس يقول: “لله في كونه كتابان مسطور ومنظور، فالمسطور هو القرآن والمنظور هو الكون. فالكون قرآن منظور، والقرآن كون مسطور، والكون صنع الخبير والقرآن كلام الخبير ولا يخالف كلام الخبير صنعه”. وبهذا الوعي يستطيع الإنسان أن يربط بين سنن الله في الكون، فالماء يغلي عند درجة معينة ويتجمد عند درجة معينة، هذه مسائل ثابتة تؤتي ثمارها مع الصالح والطالح والمؤمن والكافر، فكذلك سنن الله سبحانه وتعالى في الإنسان. وأقول مرة أخرى حصرا، لا تكاد تجد سنة من سنن الله في الإنسان في القرآن إلا ومعها سنة من سنن الله في الأكوان حتى يقرب الله عز وجل المعنى للقارئين لهذا الكتاب الكريم. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل الأحداث التي نعيشها ونتابعها في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس بداية النهاية لهذا الجيل الصهيوني الذي دنس الأرض والعرض. وأنا أدعو إخواني وأخواتي أن يقرؤوا كتابا بديعا لأحد شيوخنا الكرام، أحد عباقرة الإسلام وهو الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، مع أنه من أكابر العلماء في التخصص ومع أنه من النوادر إلا أن كثيرا منا قد لا يذكره أو لا يعرفه لأنه لا يحرص على الظهور. وهو في التسعينات من عمره الآن، له كتاب ماتع اسمه: “معركة الوجود بين القرآن والتلمود”. تجدون هذا الكتاب وتتمتعون به، وهو يؤسس ويؤصل للعلاقة والصراع بين المسلمين وبين اليهود كما تفضل الدكتور رشيد مشكورا، إنها بحق معركة وجود لا معركة تراب وحدود. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من جنده الفاتحين وعباده الممكنين وأحسن الله إليكم على كرم الاستضافة وحسن الاستقبال.
التفاصيلجمعتني بالدكتور أسامة، رحمه الله، صداقة لسنوات عبر "فيس بوك"؛ تابعته فيما ينشر من تدوينات ومقالات فوجدته ذا حظ يُغبط عليه من علوم اللغة والأدب والشريعة والعرفان.. وحينما فاز بجائزة الشيخ حمد للترجمة عام 2018، رأيتها فرصة للاقتراب منه، من خلال حوار فكري عن كتابه الفائز وما يثيره من قضايا.. اتفقنا على اللقاء بمكتبه بالعامرة "دار العلوم"، وأحسست أنه ليس لقاءنا الأول، وربما كان الأول بعد المائة.. استمر اللقاء ساعتين تقريبًا، شمل موضوعات شتى، في الحوار وغيره.. وحين هممت بالانصراف فاجأني بهدية قيمة، كانت هي الكتاب الفائز.. ويا لها من جائزة أسعدتني كثيرًا، فهي جائزة عالية القيمة وغالية الثمن أيضًا.. أترككم مع هذا الحوار الذي نشر في 17/ 2/ 2019م.. سائلاً الله تعالى أن يتغمد د. أسامة بواسع رحمته، وأن يجزل له المثوبة والعطاء، وأن يرزق محبيه الكرام جميعًا الصبر والسلوان.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.. .................. ---- أسامة شفيع: سعادتي مضاعفة بجائزة الشيخ حمد للترجمة ---- حوار: السنوسي محمد السنوسي كثيرة هي التحديات التي تواجه العقل المسلم في الوقت الراهن، خاصة التي تتعلق بالأفكار الوافدة والفلسفات الحديثة، التي يتضاعف تأثيرها بدرجة كبرى على الشباب.. ومن هنا، كانت الحاجة إلى تحصين العقل المسلم، وإكسابه القدرة على مناقشة هذه الأفكار وفرزها، والوقوف على أرضية صلبة من الفكر الإسلامي؛ مما يُعنى به “علم الكلام” من بين العلوم الإسلامية المتعددة. ولهذا، فمن المهم متابعة الجديد في الدراسات الكلامية، لاسيما الغربية منها، لأنها تطلعنا على مناهج دراسية جديدة، وعلى نظرة مغايرة لقضايا هذا العلم وإشكالياته. وفي هذا السياق، يأتي كتاب (المرجع في علم الكلام)، الذي صدر عن جامعة أكسفورد، بتحرير المستشرقة زابينه شميتكه، وحظي بترجمة رائعة من الدكتور أسامة شفيع السيد، نال عنها جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي لعام 2018م. وأسامة شفيع مدرس بقسم الشريعة بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة، حصل على الماجستير سنة 2003، عن أطروحته (الفكر الفقهي عند محيي الدين ابن عربي)، كما حصل على الدكتوراه من جامعة Rouen Normandie، بفرنسا، عن أطروحته (امتناع المسئولية الجنائية في الفقه الإسلامي). وفي هذا الحوار نتعرف معه على أهمية (المرجع في علم الكلام)، وما يقدمه للدراسات الكلامية المعاصرة، وعلى قضايا أخرى تتصل بالتجديد في هذا العلم.. فإلى التفاصيل: ** حصلتم مؤخرًا على جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، عن ترجمتكم كتاب (المرجع في تاريخ علم الكلام).. كيف استقبلتم هذا النبأ؟ وماذا يمثله لكم؟ لا أكتمك سرًّا أني حين كنت أعمل في هذه الترجمة، لم تكن الجائزة بعيدة عن آمالي.. وكنت أشعر بقيمة الكتاب من عدة جهات، منها أن الكتاب حديث الظهور، فقد صدر عام 2016م، وأنه صدر عن جهة محترمة علميًّا هي جامعة أكسفورد، ومنها أنه ضخم واشترك فيه 37 باحثًا من بلاد شتى.. ومنها ما يتعلق بنعمة الله عليّ في الترجمة والأداء، فمتابعة “سوق الترجمة” تُشعرك بالأرضية التي تقف عليها، من حيث التقدم أو التأخر أو التوسط. فالجائزة لم تكن بعيدة عن طموحي، بل كانت مرجوَّة، وبخاصة أنني تقدمت إليها في العام السابق، عن كتاب (النشأة الثانية للفقه الإسلامي: المذهب الحنفي في فجر الدولة العثمانية الحديثة)، الذي ترجمته بالاشتراك مع أخي وصديقي الدكتور أحمد محمود. وعلى الرغم من أن هذا الكتاب لم يفز، فإنه كان متقدمًا في المكانة بين الكتب المرشحة. وهذا التوقع بالفوز لا ينفي طبعًا الشعور الكبير بالفرح حين حصلت على الجائزة، لأنها جائزة كبيرة أدبيًّا وماديًّا. وقد سعدت بها سعادة مضاعفة، لأنني نلتها- بحمد الله- في سن صغيرة بالنظر إلى المعتاد في أمثال هذه الجوائز. ومما زاد سعادتي أن أحد المسئولين عن الجائزة تعجب عندما رآني، وقال لي ممازحًا: ظننتك شيخًا في عامه التسعين! ** كيف استقبلت الأوساط العلمية والأكاديمية ترجمتكم؟ ما يصلني عن الكتاب أن من يقرؤه يحمده، ويحمد الجهد المبذول فيه بفضل الله.. وإذا كان الحصول على الجائزة يقتضي بداهةً أن طائفة من الأكاديميين قد اطلعوا عليه، أعني لجان التحكيم التي تتكون من أساتذة متخصصين، فإن في الفوز بها شهادة علمية بحق الكتاب.. وقد أسعدني أن الأستاذ المحكم لقيني في الحفل وأثنى كثيرًا على الترجمة وناداني مرحبًا: “أهلاً بصاحب الترجمة المُعَلِّمَة”، ووصفها بأنها “ترجمة بديعة”، وطلب مني ترجمة بالفرنسية فأهديته ترجمتي لكتاب (الشرق والغرب) للفرنسي المسلم رينيه جينو (عبد الواحد يحيى). وقد نُقل إليَّ- عن طريق دار النشر- ترحيبُ المتخصصين بالكتاب وثناؤهم عليه.. وفي المقدمة الضافية للكتاب أثنى أستاذنا العلامة حسن الشافعي على الكتاب وعلى الترجمة. ** ما الجديد الذي يقدمه (المرجع في تاريخ علم الكلام)؟ في المقدمة المفصَّلة التي كتبتها محررة الكتاب زابينه شميتكه، شكت من عدم عناية المستشرقين بعلم الكلام على غرار عنايتهم بالعلوم الإسلامية الأخرى، كالفقه والتفسير.. وعللت ذلك بقلة المصادر إلى عهد قريب، وأن كثيرًا منها لم يزل مخطوطًا، مما صرف الناس كثيرًا عن علم الكلام.. ولكن في الفترة الأخيرة بدأ اكتشاف كثير من المخطوطات وتحقيقها، وهو ما ضاعف الجهود في هذا المجال. والجديد الذي يقدمه هذا الكتاب هو فكرته، من حيث إنه كتاب مرجعي، يشترك فيه 37 باحثًا من شتى بقاع الأرض، كل واحد منهم يكتب في الموضوع الذي درسه وتوفَّر على معرفة تفاصيله، ضمن رؤية تكاملية وضعتها الأستاذة المحررة؛ من حيث النشأة ثم ما تلاها من مراحل، وصولاً إلى علم الكلام في الوقت الحالي وجهود التجديد فيه، أو ما يُسمَّى بعلم الكلام الجديد. فميزة الكتاب أن كل من شارك فيه يكتب في الموضوع الذي انقطع له وتخصص فيه، ويكتب ما انتهى إليه من آراء؛ حتى إن المذهب الكلامي الواحد يكتب فيه أكثر من مشارك، مما يعطي رؤى ثرية متكاملة في الموضوع.. وهذا العمل الجماعي بهذه الصورة، وبخاصة مع توافر محرر جيد وإمكانات مادية، يعطي تصورًا هائلاً أو واسعًا لتاريخ العلم. ولكيلا يكون الكتاب مقصورًا على “تاريخ” علم الكلام، حوى فصلين تضمنا مباحث “نظرية” تهتم بالأفكار الكبرى في هذا العلم.. وهذان الجانبان مهمان في “التأريخ” لأي علم؛ فتُعطَى أولاً رؤية “بانورامية” لتاريخ العلم، ثم يُقدَّم “تاريخ تفصيليّ” لبعض قضاياه ونظرياته. وقد قال أستاذنا الدكتور حسن الشافعي في تقديمه، عن هذا الكتاب: “إنه عمل بالغ الأهمية من الناحية الأكاديمية، ويمتاز بنظرة شاملة ومعاصرة إلى تاريخ هذا العلم وواقعه المعاصر.. ويتناول مجالات قلَّما نعرض لها نحن في بحوثنا العربية: ومن أبرزها العناية بالبوادر والمقدمات التي سبقت المذاهب الناضجة المستقرة”. ** إذن، ما الفرق بين تناول الدارسين العرب ونظرائهم الغربيين لـ”علم الكلام”؟ هذا سؤال واسع جدًّا، ومن الصعب أن يقوم المرء بدور الحكم بين الدارسين العرب والغربيين؛ لأنه هذا يقتضي دراسة كل الجهود على هذين الصعيدين.. لكن يمكن لنا أن نقول: يوجد هناك فرق عام لا يتصل بعلم الكلام خاصة، وإنما يتصل بالعقلية الغربية والعقلية الشرقية، ويتصل بـ”الانتماء”. فالغربي حين يدرس هذا العلم، يدرسه وهو غير منتمٍ لأي من الفرق الكلامية، بل إنه لا يكون مسلمًا أصلاً في الغالب؛ فلا يحكِّم معتقده في البحث العلمي. وفيما يتصل بما أشرنا إليه من وجود فارق بين العقلية الغربية والعقلية الشرقية: نحن نقتصر- في العموم- على الوصف، في حين يهتمون هم بالبحث عما وراء الموصوف؛ أي يهتمون بتحليل الأفكار بينما نكتفي نحن بوصفها.. ولعل السبب في هذا مرجعه إلى أصول النشأة ونُظم التعليم.. وهنا أود أن ألفت النظر إلى أنني بهذا الكلام لا أمدح ولا أذم، وإنما أصف واقعًا أراه. كما أن هناك كتابات عربية تلتزم بالمنهج التحليلي والنقدي، وقد استند الكتاب إلى بعضها.. لكن نحن نتحدث بصفة عامة. فالطالب الغربي ينشأ من صغره على فكرة التحليل، وعدم الاكتفاء بالظاهر، ويُربَّى على البحث عما وراء العبارات، واستخلاص النتائج بحرية شديدة، ولو انتهى إلى نتائج قد تكون “فادحة” إذا قيلت في بيئة أخرى.. هو يلتزم فحسب بالمقدمات العلمية، ولا بأس بالنتائج التي تفضي إليها هذه المقدمات. ** تناوَلَ الكتاب الوقائع التاريخية- مثل محنة خلق القرآن- بما أبرز العلاقة بين الحركة العلمية والأوضاع السياسية والاجتماعية.. كيف جاء ذلك؟ وكيف يمكن تجنب التأثير السلبي لهذه العلاقة على مسار البحث العلمي؟ الكتاب طرح رؤية أوَّلت ما حدث في محنة خلق القرآن بأن الفقهاء كانوا قد سيطروا على العامة، وأراد المأمون أن يرد للأمراء هيبتهم فنكَّل بمن خالفه من الفقهاء ورجال الدين.. وهذه رؤية تنم عن عدم دراية كافية بالمجتمع العربي والإسلامي، وتقيسه على المجتمع الغربي الذي ينتمي إليه الباحث. وهي رؤية علمانية مادية لتفسير هذه المحنة؛ وإلا فهل يُعقل أن يتحمل الإمام أحمد ما تحمل لمجرد الحفاظ على ما يقال عن “المكانة والنفوذ” للفقهاء ورجال الدين، أو التنازع على السلطة.. أم أن الأمر يتعلق بالعقيدة والتضحية في سبيلها، مما لا يفهمه من ينطلق من منظور مادي فقط؟! ومن الوارد جدًّا أن يكون الخليفة المأمون، وهو رجل مثقف، قد أراد أن يفرض ما رآه صوابًا، وليس الأمر استردادًا للسلطة والنفوذ.. ومن الجائز أن يكون قد نكَّل بالعلماء وهو يرى أنه يتقرب إلى الله بذلك. فعدم التفرقة بين المجتمعات إحدى مشكلات البحث العلمي عند الغربيين؛ وقد أشار لذلك أكثر من باحث عربي، منهم المؤرخ الكبير الدكتور قاسم عبده قاسم. وعدمُ تصور طبيعة المجتمع الديني المسلم، يوقع الباحثين الغربيين في أخطاء؛ لأنه حتى الذين يتصورونه منهم مجتمعًا “دينيًّا”، يفهمونه على الصورة المسيحية؛ وهذا غير صحيح بالنظر إلى المجتمع الديني المسلم. أما فيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال، فالحق أن من الصعب تجنب التأثير السلبي للأوضاع الاجتماعية في مساراتها المتعددة، على البحث العلمي.. لأنه حتى في الغرب، كان الاستشراق هناك لوقت قريب أداة من أدوات السياسة، وإنْ تحرر من ذلك الآن كثيرًا.. فلا مفر من بقاء حالة الشد والجذب بينهما.. ويبقى الأمر متعلقًا بوجود دور الباحث الذي يتمسك برأيه متى اعتقد أنه صواب. ** ما أبرز الاتجاهات الحديثة في “علم الكلام” كما رصدها هذا الكتاب؟ في الفصل الأربعين من الكتاب، وهو أطول الفصول، رصدت الباحثة روتراوت فيلانت الاتجاهات الحديثة في تجديد علم الكلام، من بلاد شتى، مرورًا بالإمام محمد عبده الذي حرص على تذويب الفوارق بين مدارس علم الكلام، كما في كتابه (رسالة التوحيد)، وما تابعه عليه تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا، وإن كان الأخير أقرب للسلفية من أستاذه.. ووصولاً إلى مسارات البعض حديثًا في تقديم “علم كلام جديد” يتحرر من كل شيء، حتى دخل في هذا المجال من ليس من أهله! ولكن الفكرة الأوضح في تجديد علم الكلام هي أن القدماء كانوا يشتغلون بهذا العلم ردًّا على الفلاسفة اليونان ومن تبعهم من فلاسفة الإسلام، وكان هؤلاء الفلاسفة يعرضون لمشكلات معينة، ودَفْعُ هذه المشكلات يكون بطريقة معينة.. لكن اختلف الأمر الآن، وصرنا أمام موجات إلحادية ومدارس فلسفية جديدة.. فإذا كان علماء الكلام القدماء قد عُنوا بدراسة الفلسفة القديمة ردًّا على الفلاسفة، فمن الواجب على علماء الكلام المُحْدَثين أن يدرسوا الفلسفة الحديثة ليستطيعوا الرد عليها.. وهنا نعود إلى أصل نشأة علم الكلام، وهي أنه نشأ دفاعًا عن العقيدة؛ فإذا كان العدو قد تغير، فلابد من تغيير أساليب مواجهته.. ونحن الآن بصدد أفكار جديدة، وعلى رأسها قضية النزاع بين الدين والعلم، وما تستتبعه من قضايا مثل “الإعجاز العلمي” في القرآن الكريم. وإذا كان الأمر كذلك، فعلى المشتغل بعلم الكلام الحديث أن يدرس الفلسفة الحديثة، ويطلع على العلم التجريبي ونتائجه ونظرياته، بعد أن يكون قد رسخت قدمه أولاً في العلوم الشرعية، واطلع على المدارس الإسلامية ليوظفها جميعًا، على ما بينها من خلاف، في الدفاع عن الإسلام، كما فعل الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة)؛ فقد كان منهجه الاستفادة من الفرق الإسلامية، حتى التي لا يعترف بصوابها، في الرد على الفلاسفة، لأن الأمر كما قال: “عند الشدائد تذهب الأحقاد”. ** جاءت نشأة “علم الكلام” من رحم الانقسام أو مقترنةً به، وصار ذا طابع جدلي.. كيف يمكن تجاوز ذلك لينحصر الخلاف في قاعات الدرس، وليكون “علم الكلام” ساحة للنقاش والرأي الفكري الثري؟ هذا عسير جدًّا؛ إذ بات من السهل الآن، بفعل وسائل الاتصال الحديثة، نقل النقاش من قاعات الدرس إلى الفضاء المفتوح، أي إشراك العامة في حديث الخاصة؛ مما يُحدث ضجيجًا وجدلاً. فعلم الكلام لن يخلو من الجدل، وخاصة مع دخول العامة في النقاش العلمي، وكذلك دخول أنصاف المتعلمين، الذين يكونون أكثر جرأة على إثارة الجدل، وعدم احترام العلماء.. وإذا أضفنا طبيعة علم الكلام ذاته، وهو أنه علم جدلي نشأ للدفاع والمحاججة؛ تبين لنا صعوبة ذلك.. ومع هذا، فعلينا التخفيف من هذا الأمر ما وسعنا الجهد.
التفاصيل🔹️تاريخ الكنافة ❤ تعددت الروايات والمذاقات والكنافة واحدة، فالكنافة التي ارتبطت بالمصريين والعرب كافة كان لها نصيب من القصص والحكايات كغيرها من عادات شهر رمضان المبارك.
التفاصيلولد الشاعر محمد عاكف في استانبول عام 1873م من أب أرناؤوطي (ألباني) وأم بخارية مهاجرة ضمن أسرتها إلى تركيا ، وكان والده محمد طاهر أفندي عالمًا دينيًا
التفاصيللو بتعمل طاعة الشيطان مش هيسيبك هيعطلك مرة بأي حاجة هيحبطك مرة
التفاصيلمقاصد سور العشر الأول من القرآن الكريم (سورة الفاتحة - سورة التوبة) = مقومات بناء الأمة المسلمة وارتقائها .
التفاصيلتكررت حوارات بين رب العالمين والكثير فى القرآن .. ولكل حوار غاية أراد الله أن تستقر فى نفوسنا وتتعمق بها لتهدأ .. ونور يستقر فى القلوب لتضئ
التفاصيل